بما أن الفساد في العراق أصبح ظاهرة شائعة تشمل جميع مفاصل الحكومة العراقية بل تتعداها إلى مفاصل الدولة الأخرى المستقلة مثل القضاء والإعلام ، لا بل تعدت كل ذلك إلى المنظومة القيمية والأخلاقية في المجتمع العراقي ، الذي كان له الدور الأكبر في شيوع هذه الظاهرة الناشز في مجتمعنا الملتزم المتدين ، ولم يكن الفساد ليضرب أطنابه في الحكومة العراقية ومؤسساتها لولا ملائمته البيئة العراقية التي استساغت الفساد نتيجة السنين القاسية التي مرت بالعراق في تسعينيات القرن الماضي ، حيث سنين يوسف العجاف التي تركت آثارا واضحة على قيم وأخلاق العراقيين المهزوزين الذين سوغوا لأنفسهم بسبب ظروف العراق السياسية والاقتصادية التي نتجت عن الحصار الاقتصادي الجائر الذي جثم على صدر العراقيين سنين طويلة ظهر فيها المعدن الحقيقي للفرد العراقي ، فالعراقي المحصن تربويا وفكريا الملتزم بأخلاقه الموروثة عبر الأزمة بأقل خسارة ممكنة ، ولم يغير فيه الحصار شيئا بل زاده تمسكا بمبادئه العظيمة وأخلاقه العالية ، وازداد يقينا بأن الصمود على المبادئ يهون الصعاب ، لكن الفاسدين الذين كانوا ينتظرون الفرصة المؤاتية أظهروا من الفساد إبان الحصار ألوانا من الغش والسرقات وما نهبهم ممتلكات الدولة واستباحة أموال الشعب العراقي إلا دليل على معدن هؤلاء الرديء والذي في كل الأحوال لا يمثل العراق ولا العراقيين ، بل هم نهازوا الفرص راكبوا الموجة الذين ينعقون مع كل ناعق ، ومن هذه النماذج المتلونة انتقت أمريكا ومن جاء معها على الدبابة أعوانهم وأدواتهم لكي ينفذوا المخطط المشبوه الرامي الى تفتيت العراق وتقسيمه ، فعملوا وبكل ما أوتوا من قوة على تخريب البلد وإفساده وإضعافه لتسهل قيادته وحكمه ، وما مدحت المحمود ومن لف لفه إلا نموذج للأدوات التي أبدت استعدادها للعمل تحت أجندات المحتل ومن جاء معه . ولا يحسبن أحد أن إقالة المحمود أو إبداله بغيره سيكون له تأثير السحر في إصلاح القضاء ، فالقضاء العراقي اليوم بأمس الحاجة إلى إعادة إصلاح شامل يبدأ بتأكيد استقلاله ليكون فعليا فكيف يكون القضاء مستقلا و الادعاء العام الذي يمثل الحق العام فيه يكون مرتبطا بوزارة العدل التي هي بالأساس مرتبطة بالحكومة ، فالتعيينات للمدعين العامين الذين يمثلون الرقابة القانونية على كل مرافق الدولة، والترفيعات والتنقلات والعقوبات والمكافآت والرواتب كلها محصورة في يد وزارة العدل التابعة للحكومة ، فتأكيد استقلال القضاء فعليا يبدأ باستبدال العناصر الفاسدة وغير المؤهلة بالعناصر الأكاديمية الكفوءة وما أكثرها ، على أن يسبق ذلك التغيير اشتراط أن يكون القاضي مستقلا سياسيا فلا يتبع بحال من الأحوال لأي مكون سياسي مهما كان اتجاهه الفكري، وأن تبادر المنظومة القضائية الجديدة برفد الجهاز القضائي العراقي بالكوادر الشابة الأكاديمية من أساتذة الجامعات وتأهيلهم في معهد القضاء العالي في دورات سريعة لسد النقص المتوقع نتيجة إزاحة الكثير من القضاة الذين استحقوا التقاعد منذ سنين .
وهذا الإجراء يعد إجراء تطهيريا للقضاء المستقل العادل الذي لا تؤثر فيه أهواء الحزبيين والسياسيين أو الوزراء والمسؤولين الحكوميين ، كل هذا يجب أن يشفع بإجراء تغييرات قانونية على قانون المحكمة الاتحادية ونظامها الداخلي ، لكي لا نسمح باستنساخ تجرب مدحت المحمود أو غيره مرة ثانية . وتفعيل دور الادعاء العام أمر يعيد للدولة والمال العام هيبته ويضع القانون فوق الجميع قولا وفعلا وهذا هو ما يطمح إليه المواطن العراقي لكي يعيش في بلده مستندا إلى قانون يحمي حقوقه كلها ويؤمن للضعيف والفقير عدالة اجتماعية يفتقر إليها العراقي منذ عقود إن لم تكن قرونا .