من فكّر في المناصب الحكومية في البلاد؟

 

تخيل العدد المرعب من المدراء والمسؤولين، والمعاونين، والخبراء والمستشارين.. عدد كبير جداً من صناع القرار، ومشرفي الأعمال في هذه البلاد.. ستكتشف رقماً يعطيك الشعور بالارتياح، ويجعلك مطمئنا على أن حاجات الإنسان هنا، تُقضى في وقت قياسي.

ومع هذا العدد تخيّل أيضاً أنَّ دوائر، ومرافق خدمية، تسلح موظفوها بالتكنلوجيا، وأن العشرات منهم أوفِدَ إلى بلدانٍ مختلفة ليعود إليها خبيراً، وأن مالاً أُنفِق لشراء حواسيب تسهل وتلخص أعمال الحكومة.

تخيل كل هذا، وإياك أن تتفوه بنقد لجودة الخدمة العامة في البلاد.

لا تقل إن الطوابير لا تزال في دوائر الجنسية، ومراكز التموين، والمجالس البلدية. هذه قصة من الماضي، كل شيء يسير وينجز بسرعة تفوق الخيال، بفضل مؤسسة عملاقة متخمة بالكفاءات.

لا تقل إنك فتشت في دائرة ما عن أوليات معاملة، ودلّك الموظف، مسؤول الأرشيف على مكانها، وزجك في قاعة تغص الأوراق والملفات. لا تقل إنك على وشك أن تتنازل عن حقوقك المدنية مقابل عدم البحث في هذ الأرشيف.

لا تقل إنها مؤسسة ورقية.

لا تقل أيضاً إنك اضطررت يوماً إلى مراجعة دائرة ما لان موظفاً "خبيراً" دون في استمارة تخصك معلومة مغلوطة. لا تقل، فكل شيء محسوب بدقة الحواسيب وأزرار الألواح الرقمية.

المؤسسة العراقية صارت "ديجيتل".. يا عزيزي.

لا تقل أيضاً إنك تسلمت وصفة دواء من مستشفى حكومي، واكتشفت أنها مخصصة لعلاج الحموضة في المعدة، بينما أنت تصحب صديقاً مصاباً بكسور في حادث مروري، ولا تقل أيضاً إن وفي سبيل تصحيح الوصفة عند باب الطبيب تسمع صراخ سيدةٍ، كانت اكتشفت أخيراً أن قطعة صغيرة من مشرط طبي نسيه أحدهم في ساقها، يوم أجرت عملية جراحية.

لا تقل إن الدولة المتخمة بكل هذه الكفاءات خاوية، من دون عقل.

قبل نحو أربعة أعوام، قادتني مهمة صحفية إلى محافظة في الفرات الأوسط، وكان عليَّ أن أتقصى عن شيء ما. طلبت مقابلة المحافظ، وكتبت لفريقه الإعلامي طلباً بذلك مزوداً بأسباب المقابلة. جهزت له أسئلة عما أريد التقصي عنه.

في غرفة الانتظار كان مدير المكتب لطيفاً جداً، فتح مكيف الهواء، ثم ضيفني على علبة مشروب غازي بارد. إلى الخلف من مكتب المدير مكتبة عملاقة، كانت مزدحمة بالدوريات، والمجلدات التي توحي بأنك في المكتبة الوطنية.

في غرفة الضيافة كان شاب يحمل ملفاً سميناً، من الواضح أنه يسأل عن تعيين حكومي. مدير المكتب اللطيف جداً سأل الشاب "ما تحصيلك العلمي؟". يجيب "تخرجت قبل أربع سنوات من الإدارة والاقتصاد". فيرد صاحبنا، المدير اللطيف، المهذب "عجيب.. لديك شهادتان ولم يعينك أحد".

لا تقل أي شيء.

ما يحزن حقاً الموظفون الذين يحملون أدمغةً بعشرة حواسيب، لكنهم ضائعون في مؤسسة تنتفخ بالورق، والمناصب المشغولة بالشاغرين.