فساد الحاكم وهلاك المحكوم

 

في سنن التأريخ عندما يفسد الحكام يفسد المجتمع ، وهناك تبادل في التأثير الاخلاقي والثقافي بين الحاكم والمحكوم ، فالشعوب تقتدي بالحكام ، وجاء في الحكمة : ان الناس على دين ملوكهم ، ذلك ان الاسرة تقتدي بسلوك الاب ، لكن أسرة الملك هي ليست زوجته واولاده بل اسرته شعبه ، وسواء كان الحاكم منتخبا او غالبا على السلطة بالقوة فهو يشكل قدوة لشعبه الذي هو اسرته الكبيرة شاء أم ابى ، ويكتسب الحكام صورة مثالية في ثقافة وموروث وسلوك الشعب ، وفي القرآن اشارة الى التأثير الاجتماعي لفساد الحكام : (انّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين) ، وقوله تعالى على لسان بلقيس:(إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون) ويكون تأثير سلوك الحكام في شعبهم اكثر قوة عندما يأتون الى السلطة كمنقذين من ظلم وفساد حكام سبقوهم ، وقد ينجحون في تسويق انفسهم كفرسان صالحين وليسوا منافسين على السلطة ، فاذا واصلوا سنة من سبقهم في الفساد والافساد اصبح الناس في حيرة وهم يتحرجون من توجيه الاتهام الى الحكام الجدد ، فينقسم الناس الى فئتين ، فئة تنقاد للفساد وتندمج في اجواءه ، وتضنه سبيلا مشروعا لنيل الغنيمة ، متأثرة بسلوك الحكام المحترمين ومقلدة لهم فتتراكم ثقافة الفساد في اوساط هذه الفئة ، ثم ينشأ سياق اجتماعي مبني على تطبيع المفاسد وقبول مظاهر السلب والنهب ، الغش ، الخداع ، السرقة ، السطو المسلح ، الخطف لتحصيل الاموال ، ويظهر الفساد في التجارة والصناعة والعلاقات الاجتماعية ، ويفقد المجتمع معايير الكسب الحلال والنزاهة ، ويتحول جمع المال الى هاجس يهيمن على العقلية الاجتماعية ، وفي مرحلة متقدمة تظهر حالة فقدان الثقة في اوساط القوى المنتجة التي تقوم بتسيير الحياة الاقتصادية ، وينتقل فقدان الثقة الى المجتمع فيشعر الناس انهم يعيشون في غابة بشرية وعلى اثر ذلك يظهر التفكك الاجتماعي وهو اعمق وأكثر دواما من التفكك الذي تنتجه الحرب الاهلية ، وتفقد الدولة سيطرتها وتعجز عن حماية الناس امام المفسدين بسبب تفشي الفساد في جهاز الشرطة والأمن وقد تتم كثير من الجرائم بالتواطؤ والتعاون بين المجرمين والفاسدين من تلك الاجهزة ، اما الفئة الاجتماعية الثانية فهي الفئة التي ترفض الذوبان في تيار الفساد الحكومي والاجتماعي وتتمسك بتقاليدها ومنظومتها الاخلاقية والاحكام الدينية والعرف ، والناس الاكثر ثقافة في الفئة الرافضة قد لا يفسرون الفساد على انه خلل اخلاقي بل يعدونه فشلا اداريا . عندما يفسد الحاكم والمحكوم معا وتصبح الفئة الصالحة قليلة مستضعفة ، لم تعد هناك قيمة حقيقيية لأي مظهر ديني او شعائري ، تتحول الشعائر الى طقوس وعادات غير مؤثرة ، ويصبح علماء الدين مجرد خطباء يعتاشون على الكلام ، ولا يبقى من الدين الا اسمه ومن القرآن الا رسمه ، ويقف الجميع بانتظار البلاء .