صورة اخرى، من الحياة البغدادية، عاشها عامر ومسعود


اين يقع رجل كعامر مع جمع من طرازه، من بنية المجتمع العراقي في مدينة بغداد ؟
يتنافسون فيما بينهم كمراكز جذب لذوي الشهرة، والمال والجمال، والشخصية الفذة.
قد تكون لهم اسماء ارستقراطية، وقد لا تكون، ولكن لهم قصورا ارستقراطية، لم تزعزعها فكرة المساواة الاجتماعية – ولكلهم دائما ثروة تنفق بغير حساب.

ففي بيوتاتهم تقام الحفلات اللآلاءة، وهي التي تغذي اساطير المجتمع وشائعاته بأمتع ما فيها من ابداعات وغراميات وفضائح واراء، تتبلور في مدارس واتجاهات، لا يكون الفن بمنجى منها، ولا الادب، ولا السياسة - - رجال كهؤلاء، مع زوجاتهم، مع اصدقائهم واعدائهم، قد يدومون عقدا من السنين، او عقدين – ثم يتلاشون ويصبحون مجرد اسماء وتواريخ. او لعلهم لا يصبحون شيئا يتعدى ذكريات اناس قلائل، ارتفعت بهم الايام ثم انخفضت، والتهمهم الزمن فيما التهم.

عامر واحدا من هؤلاء، - بل انه في بغداد يكاد يكون وحيدا في مجتمع خاص، لا يشبه في كيانه شيء، بين الكيانات المجتمعية المحيطة به. فهو ليس بظاهرة بقدر ما هو شيء من عالم آخر، من عصر آخر - - - فبغداد في تاريخها العريق عرفت كل شئ عرفته حضارات اليوم - - ولعل عامر، ان لم يكن مستعارا من باريس او لندن، فهو مستعار حتما من ماضي مدينته هو، مدينته التي كانت قبل الف عام حاضرة الدنيا في كل ما يفعله الانسان او ما يفكر فيه. في وسط دسائس اصحاب السياسة وصراعات رجالات الدين - - - كان هناك من ينجذب الى مأدبته من الملائكة والشياطين. المؤمنون والزنادقة، الموالون والثائرون، على ان يتصفوا جميعا بما يعجز ان يتصف به الاخرون من فتنة، او المعية، او لسان - - - يقال هذا القول في عامر الذي لم يحاول يوما ان يرى نفسه في المرآة، كما يفزعه النظر الى الوراء، انه لا يعود ببصره الى طفولته، الا اذا الحت عليه الذكريات. انه لا يرى فيها اي جمال او دلال او رونق. ولهذا يرفض النظر الى الماضي - - الى تاريخ أمّته !!

انه كأبيه، كان يرى التاريخ كله مجسدا في الحكم العثماني البغيض، الذي حكم العراق. اذ اصبح محاربا وطنيا، يحلم في تحريره على غراره الخاص - - وعامر قد تخطى الاربعين. بان حتى تاريخه القريب قد انفصل عنه والتحق بالتواريخ الماضية التي تراكمت في غرف مظلمة.

عامر يعيش لحاضره فقط، يعبر مسرعا، كسحابة صيف بغداد. وبغداد تعني له داره، وحديقته الفسيحة، ومكتبته الزاخرة بالكتب الاجنبية، فهو لا يقرا شيئا بالعربية، بغداد تعني له مائدته العامرة، ومطبخه العصري المزود بمؤن تكفيه، ما دام حيا، ومجموعة خموره الفرنسية والالمانية، وانواع الويسكي الاسكوتلندي، وضروب الاجبان الدانمركية و السويسرية.
هذه الحديقة الأنيقة، الهافة بنسمات بعد منتصف ليل بغداد صيفا، والماء يثرثر على مهل من عدة نوافير، منتشرة هنا وهناك، تضم عددا من المتسامرين، يزين مجلسهم جمع الحسناوات، نسائهم، وقدح الكونياك، وموسيقى الباروك، تفضي على الحضور جوا خاصا، ينسيك فوارق الزمان و المكان، بين بغداد وحواضر الدنيا، قديمها وحديثها.
وبعد صمت طويل من عامر، يضرب بقبضته على المائدة امامه، قائلا : الحضارات كلها هنا ! في هذا المكان بالذات، متجلية في المشاعر و صوت الناي العراقي، في مقامات القبنجي، في لوحات جواد سليم، وفائق حسن، المعلقة على الجدران - - - أليس رائعا اننا نستطيع لن نتذوق كل ذلك دفعة واحدة، ونحن نتاج حضارة الوركاء السومرية، مرورا ببغداد المأمون، والمنتهية بعصر الصواريخ المتساقطة على القمر ؟

ان هذا الطور من حياة البذخ والمسّرة، قد اوجد لعامر وبطريق الصدفة، رفيق الدرب، اسمه مسعود. لكن العلاقة بينهما قد ادهشت اصدقاء الرجلين، فقد كانا متلائمين متآخين في الظاهر، وفي نفس الوقت متضادين في امور كثيرة - - ولكنهما أثبتا على مر الايام انهما يتممان كلاهما الاخر. كالقطبين المتضادين. حتى في شخصيتهما. فمسعود يميل الى طلاقة اللسان، يتلذذ في نطق الالفاظ، عربية كانت ام انكليزية، أي تلذذ، ولقاءاته مع اصحابه، لقاءات متجلية، تتطاير فيها الكلمات، تطاير الالعاب النارية. في حين ان عامر اميل الى الصمت، يبحث عن الالفاظ بحثا، اما اذا قال شيئا، فانه نطق اشياء تصدم او تذهل، تغضب او تضحك.
كان لعامر اصدقاء، ذو نزعة يسارية، يغذونه بأفكارهم، ويوم ذهب الى لندن للدراسة، كان فرحه الكبير، استطاعته مطالعة الكتب الماركسية بكامل حريته. وحضور المحاضرات التي يلقيها اساتذة بارعون - - - ثم عاد الى بغداد مشحونا بذلك كله، كان ذلك في مطلع الخمسينيات - - لكن بضع سنوات كانت كافية لزعزعة عقائده شيئا فشيئا، حتى ادرك انه في قرارة نفسه لا يؤمن فعلا بشيء. ذكاؤه المفرط قاده الى رؤية التناقضات في المجتمع – لا في افكاره فحسب بل في افكار الذين يلتقي بهم. واذا هو يعتقد بان القضية يجب ان تهمل. - - لقد بدأ حياته شعبيا بروليتاريا، ككثير من ابناء الطبقة المرفهة الذين فتحوا اعينهم المدللة على ما حولهم من فقر وعسف وحرمان، فذهلوا لما رأوا، فتعاطفوا معه روحيا، وتحمسوا في النضال، نظريا في الغالب ! ثم انتهوا تدريجيا الى الايمان بشيء واحد، اسمه : التكنولوجيا.

كان ايمان مسعود بالانسان، الذي يستشفه عامر ويضحكه، انه يعتقد ان :
( الايمان بالانسان، اذا ضربته في الف، اصبح ايمانا بالمجتمع، والناس هم هؤلاء الذين يتراكضون ويتصايحون، يقررون اليوم وينسون غدا، ويرفضون ان يتغيروا – الا بالقوة. واذا تغيروا قليلا، عادوا مرة اخرى يتراكضون ويتصايحون، يقررون وينسون. ويبحثون عمن يسلمون له رقابهم لكي يضع عليها قيدا جديدا، من هذا النوع او ذاك - ) ثم يضيف :
( وانت يا عامر تفكر بالتغيير بموجب قوة تفرض عليك من فوق، انه تغيير من عبودية الى عبودية - - اما انا فافكر بالتغيير بقوة تنبثق من داخلي، كالقوة التي تحسها انت في دمك، اي من عبودية الى حرية - - هذه القوة التي في داخلي لن استطيع ان اهبها لاحد كي يغيرني، مهما كان مصدر القوة المغيرة - - لا يهمني ان اغير عالم الناس، الكومبيوتر وحده، كفيل بذلك، وسيعمل عوضا عنا - - وانت بتعلقك بالكومبيوتر، يمكنك – ان اردت - ان تغير الناس، بمشيئتك الى حال احسن ! )
* فقرات مقتبسة من رواية (البحث عن وليد مسعود) لجبرا ابراهيم جبرا،.