مجلس النواب والبطالة التشريعية

 

 

 

 

 

 

مازال الكساح التشريعي والرقابي لمجلس النواب يحظى باهتمام المراقبين والرأي العام الوطني ، ويكمن الخطر في الخلط بين مجلس النواب المؤسسة الأم في النظام الديمقراطي وبين المكلفين بادارة المؤسسة عندما يفشلون في اداء واجبهم الدستوري ، اي الخلط بين المفهوم والمصداق ، لذا يعد الحفاظ على مجلس النواب مقدمة للحفاظ على النظام السياسي الجديد ، فلا يمكن للبلاد التي ذاقت الأمرين في ظل الدكتاتورية ان تعرض تجربتها الجديدة الى التشكيك بسبب قصور بعض الاحزاب والكتل والشخصيات عن القيام بما يجب ، اصبح مجلس النواب يواجه صعوبة بالغة في اداء كلا وظيفتيه الدستوريتين التشريعية والرقابية اللتين انتخب من اجلهما ، وفي بلد يعيش فيه الاعلام حرية مطلقة وتنشط فيه وسائل التواصل والنشر والنقاش الحر كالعراق لا يمكن لأحد ان يخفي اخطاءه ، ومن يحاول ان يستغبي الجمهور يصبح هو الغبي الذي يعرض نفسه للسخرية على مسرح الاعلام اليومي ، أصبح العجز النيابي مثيرا لقلق الشارع ، فالمواطن هو الناخب الذي صنع بارادته البرلمان ، وحين يقلق ويتسائل ويغضب يكون متطابقا في مخاوفه مع الدستور ، ولا يمكن لاحد من الناس ان يكون متآمرا على مجلس النواب او مبغضا له ، بل هناك استحقاقات معروفة فالشعب يعاني من وباء الفساد المنتشر في كل مفاصل الدولة وعروقها ، ولايجد أي مبادرة جادة من مجلس النواب في مواجهة الفساد في اطار دوره الرقابي ، وفوق ذلك يلاحظ الشعب بوضوح عجز البرلمان عن تشريع القوانين التي لها مساس مباشر بحياته ومصالحه المشروعة وحقوقه . يعد النظام البرلماني من اهم مظاهر الديمقراطية ومصاديقها ، ووجوده في العراق يعد تحولا نوعيا بالمقارنة مع السلطات الأخرى التقليدية في البلاد التي كانت ادوات طيعة بيد النظام الاستبدادي السابق .

المشكلة في اجواءها النيابية :

انتقل القلق الى اجواء مجلس النواب ولم تعد البطالة التشريعية امرا سريا ، هناك نواب مازالوا يشعرون بثقل الامانة ، ويرفضون تجاهل المشاكل الكبرى التي تواجه البلد ، وما زالوا يسعون نحو بناء نموذج دولة المواطن الذي يناقض نموذج دولة المسؤول ، واكثر الكتل شعورا بالبطالة التشريعية ورفضا لها هي الكتل التي كان لديها برنامج النتخابي ووعود لناخبيها . كتلة المواطن اعربت عن املها في تشريع كافة القوانين ذات الطابع المصيري في حياة المواطن قبل انتهاء ولاية مجلس النواب الحالي ورفضت منطق الترحيل والتأجيل الى دورات مقبلة ، فيما رجحت كتلة دولة القانون ترحيل اغلب القوانين المختلف عليها الى الدورة البرلمانية المقبلة لعدم وجود اتفاق بشأنها بسبب استمرار الصراع السياسي . فيما يقول بعض النواب ان هناك قوانين لا تزال تتضمن مخالفات دستورية ، ولا يصح التصويت عل ما يخالف الدستور . من جانبه دعا مقرر مجلس النواب محمد الخالدي جميع الكتل السياسية الى «التأني في اتخاذ قراراتها والابتعاد عن التشنج في الاراء». و« انتهاز الفرصة لمبادرات جديدة بين الكتل السياسية لتهدئة الاجواء واقرار القوانين التي تهم المواطن وتدعم الحالة الاجتماعية له». كتلة الاحرار هي الاخرى رجحت احتمال ترحيل اغلب القوانين المهمة التي ما زالت معطلة داخل مجلس النواب الى الدورة البرلمانية المقبلة لتشريعها بسبب استمرار الخلافات السياسية بين الكتل النيابية. فيما وصفت كتلة التحالف الكردستاني السنوات الثلاث الماضية من عمر البرلمان بانها شهدت دورا رقابيا وتشريعيا خجولا ، وعجزت عن محاسبة اي وزير او مسؤول أو قائد امني وتحولت الى حجر عثرة في تشريع قوانين غاية في الاهمية معطلة منذ سنوات . مع ذلك تؤكد سجلات المجلس انه استطاع أن يمرر اكثر من 100 قانون خلال هذه الدورة ، ومازال هناك وقت لتمرير المزيد ولكن هذه القوانين اعتمدت على الكمية لا النوعية . يقابل هذا المنجز وجود 12 قانونا مهما ما زالت تخضع للسجال السياسي ، وانتقدت كتلة المواطن مرات عديدة اخضاع العملية التشريعية لاعتبارات التنافس السياسي والابتعاد دائما عن معاناة المواطن وقضاياه الصعبة ومشاكله العالقة .

مصداقية مجلس النواب على المحك

في هذه الايام لم يتبق من عمر البرلمان سوى اشهر ومازالت الكثير من القوانين معطلة وغير قابلة للتشريع ، وقد اصبحت الآليات التشريعية الطبيعية المعمول بها في البلدان الديمقراطية شيئا آخر في العراق ، فهي تشكل عبئا ثقيلا ومعيقا خطيرا في العملية التشريعية ، فالسياق التشريعي يتطلب ان تصاغ مشاريع القوانين في مجلس الوزراء ثم تحال الى مجلس النواب للتصويت ، ولكن هذا السياق لا يمكنه ان يسير بسلام اذا لم تكن السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية كلها منتمية شكلا ومضمونا الى النظام السياسي القائم في البلد ، اصل المشكلة ان تحديد هوية القوى السياسية في البلد لا تعتمد العقيدة السياسية بل تعتمد الانتماء الطائفي او القومي ، فالايمان بالديمقراطية لا يكفي في خلق هوية سياسية في العراق ، والغريب ان النخبة السياسية قسمت نفسها الى عرب وكرد وسنة وشيعة حسب زعمهم ، فيصبح غريبا ان يجري الصراع بين سني ديمقراطي وشيعي ديمقراطي وكردي ديمقراطي ايضا ، الجميع يؤمنون بالديمقراطية ، ولكنهم لا يتخذونها عقيدة سياسية يمكن ان تؤطر سلوكهم السياسي وعلاقاتهم ضمن الوطن الواحد ، واتضح ذلك في الانسداد التشريعي الذي يعيشه العراق حاليا . المشكلة ان الاطراف السياسية لديها طموحات ومصالح ولكنها عاجزة عن وضع مصالحها في الاطار الديمقراطي الذي يضمن آليات عادلة لتحقيق اهداف الجميع ، يضاف الى ذلك اطراف أخرى قوية النفوذ لاتؤمن بالديمقراطية بل يأخذها الحنين الى ايام الدكتاتورية السعيدة ، هؤلاء لايؤمنون بمجلس النواب ولا بوظيغة التشريع ، ومازالوا يعتقدون ان القوانين تكتب بجرة قلم رئيس عبقري ، ولا يؤمنون بالفصل بين السلطات . بينما هناك كتل أخرى تؤمن بالديمقراطية ولكن لاتثق بالشركاء الذين يطبقونها ، واغرب الحالات هم اؤلئك الذين يؤمنون بالديمقراطية بشرط مسبق ، اذ يشترطون بأن تنفذ كل طلباتهم وان تسبب ذلك في الحاق الظلم بالآخرين ، هذه المواقف المتناقضة من الديمقراطية جعلت البرلمان العراقي بلا سلطة ، واصبحت الكثير من القوانين تحتاج الى توافق مسبق بين الكتل السياسية قبل تقديمها للتصويت داخل المجلس ، الامر الذي يجعل الكتل والاحزاب هي المشرع الحقيقي وليس البرلمان ، ولأن اغلب الاحزاب العراقية هي ليست احزابا بالمعنى القانوني بل هي تجمعات حول اشخاص ممولين او شخصيات سياسية ، واغلب تلك التجمعات لا تعمل بآليات النظام الحزبي بل تدار بقرار الممول المتصرف بشؤون التجمع ، لذا فان رؤساء الكتل والاحزاب هم المشرعون في النهاية ، ولأن اغلب هذه الشخصيات مرتبطة باطراف اقليمية الا من رحم الله لذا فحريتهم في اتخاذ القرار محدودة ، والنتيجة هي ان القوى الاقليمية التي تتدخل في شؤون العراق هي الحاضرة كالاشباح غير المرئية تحت قبة البرلمان الوطني ، وهي صاحبة القرار في التشريعات المهمة والمصيرية ! لذا تحولت بعض القوانين الى قوانين خلافية صعبة التشريع ومنها : قانون الانتخابات ، قانون التقاعد العام ، قانون منحة الطلبة ، قانون البصرة عاصمة اقتصادية ، قانون تجريم البعث ، قانون المساءلة والعدالة ، قانون العفو العام ، قانون المحكمة الاتحادية ، قانون سلم رواتب موظفي الدولة ، قانون الدرجات الخاصة المدنية والعسكرية ،  قانون مجلس الاتحاد ، قانون الاتصالات والمعلوماتية ، قانون البنى التحتية ، قانون النفط والغاز ، قانون الاحزاب ، تعديل قانون المادة 4 ارهاب .. وغيرها .

انواع الاعاقة التشريعية :

بناء على الخلفيات المعقدة المذكورة اعلاه تصبح العملية التشريعية في مجلس النواب معقدة وشائكة ومتلكئة ، ولا يشعر معظم النواب بحماس في فتح ملفات مهمة تسفر عن تشريع قانون ، ويشعرون أنهم عاجزون عن التوفيق بين رغبات كتلهم وبين واجبهم المهني ، لذا فالمتوقع في طرح مشروع اي قانون هو الاعاقة المسبقة ، وهناك عدة اشكال للاعاقة التشريعية وحسب الخلفية التي تعتمدها الجهة المعيقة :

1.    اعاقة من اجل الحصول على ثمن : كأن تتولى كتلة سياسية معينة الدعوة الى تشريع قانون معين ولكن بعض الكتل الأخرى تطالب بثمن لتأييدها المشروع فان حصلت عليه صوتت وان حرمت منه امتنعت عن دعم مشروع القانون .

2.    اعاقة من اجل السلة والواحدة : وهي رفض كتلة او أكثر دعم مشروع قانون الا بتقديمه ضمن سلة واحدة مع مشاريع قوانين أخرى تهم كتلا معينة فيكون هناك دعم متقابل .

3.    أعاقة سببها التعارض بين مشروع القانون المطروح والمصالح الحزبية والفئوية وحتى الفردية لكتلة او أكثر .

4.    اعاقة سببها جهل كتل كاملة ونوابها بحقيقة مشروع القانون وفوائده وآثاره ، او سببه عدم الاهتمام بمصالح الناس والانشغال بالصراعات وميزان المكاسب الحزبية والشخصية .

5.    اعاقة سببها الخلافات السياسية حول أمور أخرى لا علاقة لها بالقوانين والتشريعات تنعكس مباشرة على عمل البرلمان لتصبح مشاريع القوانين فرصا لتصفية الحسابات والضغط على الخصوم السياسيين . يجري ذلك في وقت ينتقد الجميع ما يسمونه تسييس العملية التشريعية .

محاولات احتواء الأزمة :

 

مع شعور النواب وكتلهم بالبطالة التشريعية التي تطوق المجلس وآثارها وعلاقتها بالمصداقية الجماهيرية لمجلس النواب ، لم تتجاوز اجراءات مجلس النواب لمواجهة المشكلة عملية تشكيل لجنة خاصة ، وقالت مصادر المجلس ان مهمة اللجنة هي الاتفاق على القوانين المعطلة في محاولة لتمريرها قبل انتهاء الدورة التشريعية الحالية. ونفت مصادر المجلس وجود نية لتقديم مقترح لتمديد ولاية الدورة الحالية ، وقالت ان الانباء التي اوردت مثل هذه المزاعم لاصحة لها ، مشيرة الى افتقار اجراء كهذا الى الغطاء الدستوري . الشائع في الرأي العام ان حضور كافة الاطراف وتوقيعهم على ميثاق الشرف والسلم الاجتماعي قد يسهم في زحزحة الركود في الوضع التشريعي ويساعد على انهاء حالة البطالة والتشريعية والانسداد ، ثم استثمار المدة المتبقية من عمر مجلس النواب لتشريع القوانين الخلافية ، هل سيكون هذا التصور التفاؤلي متطابقا مع الواقع ؟ واذا فشلت مبادرة الميثاق والسلم الأخيرة في تنشيط مجلس النواب فما هو الموضوع الذي ستحقق فيه النجاح ؟ وماذا سيبقى من قيمتها السياسية كمبادرة شاملة وواقعية وملاذا اخيرا للتخلص من الأزمات ؟...