القبضُ على (أبو الفضّل العباس)!!

 

تُقيّمُ الذاتُ الشيعية الأخ غير الشقيق للإمام الحسين والذي قُتِلَ معه في واقعة الطف الوحشية في كربلاء العام 61 هـ، على إنه رمزٌ لـ"الكفالة الاجتماعية"، وتُعطيه سمو "العصّمة" حالهُ حال بقيةِ أئمة الصفّ الأول، والذين ينحدرون من سُلالة "الحسين" مباشرة، غير أن ابن اليمانية "أبو الفضّل" حاز ثقة العقل الشيعي، ودخل إلى منطقة التقديس المطلقة، في بادرة نادرة يقف الشيعة بحذرٍ شديد عندها لجهة صرامة شروط الاعتقاد بـ"الإمامة" المرتبطة بـ"العصمة" والنسب والعلم على حد سواء، غير أن "العبّاس" خضع لشرط "الشجاعة" وتحول الى "بطل شيعي" في الموروث الشعبي، وبات يُلقَبُ بـ"أبو الراس الحار"، لغضبته و"كفيل زينب" لجهة كفالته العابرة للزمن لـ"عقيلة" البيت العلوي.

القاعُ الشيعي، متمترسٌ بالعادات العشائرية، فهي تُمثلُ بالدرجة الأساس أسلوبَ حياةٍ، وطريقة أداء اجتماعي متوائمة مع البيئة والعمل، فالغالبية الشيعية تسكُن الأرياف، وفي الريف تتحكم العشيرة، وهنا يَبزغً جلياً تشبيهُ "العبّاس" على انه "قمر العشيرة"، فأنزاح "العبّاس" من كونه رمزا مقاتلا في حروب أبيه وأخويه، إلى اعتباره بطلا شعبيا يُمثلُ قيّم "الفحولة" والهيمنة الرجولية، والشجاعة الناكرة للذات، وحماية الشرف، فنَسَجَ المخّيالُ الشعبي، قصصاً وحكايا وكرامات، فخرج "العبّاس" من دائرة الإمامة الرسمية الى دائرة "الإمامة الشعبية". العصبيات تشتغل دائماً على انتاج نفسها بنسخ هورقليائية.

ويَحتفظ الشيعةُ وبخاصة العراقيين منهم، بإرثٍ غيبيٍ مُقدسٍ، يرون فيه أمراً يقينياً متحققاً، بإن عدم الإيمان فيه يُوجبُ "الكُفر" لكنها نظرة معتزلية بوصفه "فاسقاً" ولا يستوجبُ القتلَ بل الاستمالة، وهذا الارتباطُ ليس مجرداً عن اليومي والمعاش في حياة الشيعة العراقيين، لاسيما وان حياتهم بعد التغيير في 2003 وسقف الحرية الكبير الذي تحقق لهم فيه ممارسة شعائرهم، جعل منهم يبتدعون طرقاً وبرامج لتعويض الكبت التاريخي الكبير الذي تعرضوا له، بعد ان استطاعوا تشكيل اول حكومة "عربية شيعية" معترف بها في العراق والمنطقة، تواجهُ الآن اختباراً شاقاً للبقاء في السلطة في ظل تلقي ضربات موجعة أمنياً وسياسياً، وبقسوة.

في الجنوب العراقي ما زالت عقلية الخرافة الدينية تتحكم بإدارة الحياة العامة، والأسلاف الموتى من الرجال المقدسين يديرون الصراعات والأزمات والعلاقات والمعاملات، إضافة الى توظيفهم في التسويق السياسي لبرامجيات الاحزاب الحاكمة.

هذا الامر لا يعدو كونه أمراً معاشاً وطبيعياً وليس فيه أدنى درجة من الاستغراب أو الارتياب، لكونه مرتبطا ارتباطاً وثيقاً بنظرية "الشفيع الشيعي"، والفرقة الناجية، التي يصرُّ الشيعة على إنهم ممثلوها الحقيقيون، فيما يستند تاريخهم الفقهي والسردي الى كمٍ هائلٍ من الروايات والاحاديث التي لا يجوز التشكيك بها مطلقا لكونها مسندة الى الأئمة المعصومين من الكذب والخطأ.

فقدانُ الأمن الاجتماعي، او العدالة الاجتماعية، صار هاجساً دائماً لدى الشيعة العراقيين، ان لم يكن هو الهاجس المسيطر على العقل الجمعي لأية جماعةٍ شيعيةٍ في العالم، لجهة قدرتهم على بناءِ دولةٍ مستقلةٍ وحقيقية ينادون فيها بحق "الخلافة العلوية المغصوبة"، حفز لديهم إلى حد كبير نظرية الإمام الغائب والمنحدر من السلالة العلوية المعصومة والأصيلة، والعمل دائما على تحفيز ظهوره أو توقع ظهوره او التمهيد للظهور عبر الدعوة او العمل السري او العلني، إلى حد لتعجيل الظهور المهدوي.

واحدة من الاختبارات التاريخية والسرّانية الشيعية والمؤشرة على الظهور المهدوي، ما تصطلح عليه النخبة الدينية بـ"علامات الظهور"، ولعل "مشروع الشرق الاوسط الجديد" بدا وكأنه يشتغل وفق المخيلة الشيعية، فما يَحدثُ في سوريا من احتراب طرفين لدودين بادئ الأمر "الجيش العربي السوري" و"الجيش الحُر" ودخول "داعش" أو أصحاب "الرايات السود" على خط المواجهة، أعاد تشغيل المخيلة وانتاج الرواية، بأن يقتتل في الشام (الأصهب، والأبقع، والسفياني) والغلبة تكون للأخير، تمهيداً للزحف على العراق. هذا الإيمان الغنوصي تَفَجرَ في النفسِ الشيعية، لاسيما وان عقيدة السلفيين تهدد الوجود الرمزي للشيعة في بلاد الشام، ممثلاً بمقام السيدة زينب، ما دعا للاستعادة رمز "الكفالة الزينبية" أبو الفضل العبّاس، لتؤسس ميليشيات شيعية لواءً للدفاع عن المرقد، بمجال تأمين عسكري يصل الى غوطتي دمشق الشرقية والغربية، واستراتيجياً إلى حلب والقصير!

الخروج الشيعي الى سوريا، تأسس على فكرة التضاد مع دعوة هدم المراقد، ومماثلته للهجمة المُدانة على المرقدين في سامراء العام 2006، ما حتّم بروز "العبّاس" للقيام بمهمته العابرة للزمن في حماية "زينب" والعودة الى ضفاف المهمة الاولى في كربلاء، تعويضاً عن الفشل هناك، لحيازة "النصر" هنا.

الجماعات المسلحة والمتقاتلة في سوريا المناوئة للنظام، أو رؤوسها على اقل تقدير ليست على دراية كبيرة بالتاريخ الشيعي، هي تجهل تماماً ما يحويه من تراث رمزي، واستعارات تاريخية عقائدية، فهي تحتفظ بصورة توليفية ونمطية رسختها قرون من القطيعة، لذا تقف عند الافكار السائدة عن الاتهامات الموجهة للجعفرية، تماما كما الصورة المرسومة عند الجماعات المتعصبة في القاع الشيعي عن "السُنة"، وما استدعى التوضيح، هو طرفة بالغة الحساسية أثارها مقطع فيديو يظهر فيه عدد من مقاتلي "الجيش الحُر" وهم يحوطون بـ"مقاتلٍ شيعي" من لواء "العبّاس"، وبينما تنطلق صيحات "التكبير" يُعرّف قائد المجموعة "المقاتل الشيعي" الذي شذّبَ لحيتهُ الطويلة بعنايةٍ فيما ملامحه تقترب كثيراً من ملامح الصور التشبيهية للائمة، على انه "المُجرم أبو الفضّل العبّاس" قائد لواء العبّاس، والذي وقع في أسر "الجيش الحُر"، مشهدٌ سرياليٌ مثيرٌ وطريف، يكشف هشاشة الصراع وغياب العقل عند المحاربين الدينيين.

مشهد القبض على "أبو الفضل العبّاس" المفترض في سوريا، يستدعي من الذاكرة تعليق جندي بريطاني في منفذ الشلامجة الحدودي بالبصرة، اواخر نيسان 2003، حين استقبلت حشود غفيرة رجل الدين الراحل المنفي انذاك محمد باقر الحكيم لدى عودته الى العراق، بصيحات "يا حسين"، فانبرى الجندي الانكليزي بسؤال المترجم العراقي: "هل هذا هو الحسين؟".

رمزية الفيديو، وتساؤل الجُندي البريطاني، بمثابة وخز عميق في خاصرة التاريخ الشيعي المقفل والمغلف بالتهويل، فالمذهب العقلي غاص بعيداً في بحر التخييل ورسا على جزيرة معزولة. لابد من إعادة قراءة التاريخ الشيعي حداثياً للخروج من مأزق السؤال الحضاري في بناء الدولة الجديدة، لاسيما في ظل التجربة العراقية على اقل تقدير.