حكاية قرية

 

قرية أم الخير، في أطراف البلد قرب الحدود، ينعم أهلها بالأمن وراحة البال، لم يمسّهم لليوم خراب الإرهاب، ولا ضجيج الساسة المقرفين، وهم على وشك افتتاح المقر العام، لتجمع عشائر آل مطرود والمتحالفين معهم، لكن بعد انتصاف الليل يُسمعَ دويّ انفجار رهيب، يستفيق أهل القرية ويخرجون من بيوتهم ليستكشفوا الخبر، وما حدث. سيارة مفخخة انفجرت أمام المقر العام، لتحيل المبنى الى ركام وهيكل محروق. تسارع الجميع لإطفاء الحريق، هذا بسطل ماء وذاك بسعفة، وجماعة تهيل التراب، وسط ذهول الجميع، ورئيس العشيرة مهودر، يحفز الجمع ويرفع الهمم بالهتاف والصراخ، ضجيج وفوضى يعمّ المكان، ونساء لاطمات تحيط بالحشود

قال قائل وسط كل هذا الزمهرير: يمكن هذا الرجل الغريب، سوّاهَ.  

توقف الجمع عن الحركة في لحظة ركود مهيبة، والكل يردد: الرجل الغريب!.

مَن هذا؟ ومن يكون؟ ومن يملك أيّ معلومة عنه؟. 

رجع القوم الى مضاجعهم، إلّا الشيخ وحاشيته، اذ اجتمعوا في ديوانه ليناقشوا الحدث

قال جويسم النداف: لو بس نعرف وينه، چا انحلت المسألة.

ردّ أبو علي الخضرچي: إي والحمزة، چا لگفناه، وخلصنه منّه.

رئيس العشيرة، مكسورٌ، مقهورٌ، يهزّ برأسه حرقةً وألماً على هذا الخرق الأمني.

سمع ابن الشيخ الصغير هذا الحوار وهذه النداءات لمعرفة الرجل الغريب، فدخل الديوان وتوسط الجمع، فقال بعدما ثبّت نظارته الطبية جيداً: آنه أعرفه، وأعرف كلشي عنّه!.

ذُهل الحضور، وصلّوا على النبي المختار، واسرعوا نحو الغلام يستجوبونه، بعشرات الأسئلة، وهو صامتٌ مسمّرٌ بمكانه، حتى أتاه أبوه والتقطه من وسط الجمع وفرّ به الى داخل المنزل، وانفرد به في غرفته: اكتم الخبر ولدي، لا تزفّ البشرى إلّا حين آمرك، ولا تخرج من غرفتك حتى يأذن لك أبوك.

هزّ الغلام الذي لم يبلغ الحلم رأسه، ورجع الى أجهزته الإلكترونية.

خرج الشيخ الى الجمع مرّة أخرى، مشرئبّاً، مرفوع الرأس، وهو ينادي: بُشرى! بُشرى! ما ضاع الحَگ.. يا أهل الغيرة، فتفاعل الحضور بهذه الرَدّة، وتكوّروا حلقاتٍ حلقات، خارجين من ديوانه يزفون البشرى لأهل القرية.

انتشر الخبر كالنار في الهشيم، وهلهلت النسوة، من مضاجعها مع بزوغ الشمس على تلك البقعة المحروسة من أرض العراق، خرج الأطفال بالعشرات وهم ينشدون فرحين، بمعرفة الجاني، وكشف هويته. حميد زيارة، قرّر إرجاع زوجته من بيت أهلها، وتركَ فكرة طلاقها، بوعدٍ منه أن ترافقه في قادم زياراته للأئمة الأطهار، تيمناً بهذا الخبر. موحان، قرّر بيع التركتر، ليغطي تكاليف عميلة تجميل أنف ابنته تماضر، فكل عريس كان يفرّ منها، بعدما يطلع على أنفها الكمثري، وهي فرحة تحضن أمّها كل ساعة. حمدية، خصيمة الدهر، تصالحت مع ليلى وترافقا في الذهاب والإياب الى السوق. القصاب، رخّص كيلو اللحم الى خمسة آلاف، على أن لا يشترط المشتري منطقة بذاتها من هياكله المعلقة. سوق الخضار خفّض الأسعار، وتُرفعُ اللافتات تأييداً لإبن الشيخ، البطل المغوار. شيوخ القرى المجاورة يلتحقون بالقرية مع حشودهم المؤيدة، ليعلنوا البيعة وينالوا جزءاً من شرف الكشف عن الجريمة

أُمّ الغلام تأتي للغلام بالطعام، لكن حارسين على الباب يمنعانها من الدخول، بأمر الشيخ، ويستذوقان الطعام، خشية أن يكون مسموماً، والغلام في غرفته مشغول باجهزته الإلكترونية، بين الپلي ثري والكومبيوتر، ولا أحد يخاطبه كذلك بأمر الشيخ.

يرفض الشيخ إرسال ولده الى دائرة التحقيق، بل يطالب بتدوين إفادة علنية وبكل شفافية، حتى لا يفوّت هذه الفرصة وليزيد من رصيده الجماهيري. فيدعو الى وضع مسرح كبير وسط القرية، وهوادج وصواوين للشيوخ والوجهاء، ويفرش الحصير لباقي الحضور والقادمين، هوسات وردّات لا تقف في ساعة التحقيق، وغلمان الشيخ، يتأكدون من المايكروفات ووصول الصوت الى كل أنحاء القرية. تجلس لجنة التحقيق، ويجلس الشيوخ، ويهدأ ضجيج الهادرين، إذ يقبل موكب الشيخ وهو قابضٌ على غلامه، تحيطهما الحماية والمناصرون، يعتلي المنصة ويطلب من ولده أن يستريح، ويخطب بالجمع، قبل أن يبدأ التحقيق: ألو.. ألو.. (يرفع رأسه الى آخر الجمع) دتسمعون؟ ضجيجٌ لا يُفهم منه شيء: إخواني أبناء العشيرة والحاضرين الكرام، أبشركم باستتباب الأمن، ونجاح الخطة الأمنية، ودحر جماعات البعث والقاعدة، وستنعم قريتنا بحياة سعيدة هانئة، وسنعلّم الأجيال القادمة فنون صولاتنا الرادعة، وخططنا المحكمة.

طلب المحقق العام ابن الشيخ ليمثل أمامه، وتهيأوا لتدوين أقواله بخصوص الإرهابي المجرم، فطلب الشيخ أن يربطوا لاقط الصوت ببلوزة الغلام ليصل صوته، فصفق الحضور لهذا الأمر، وأجابهم الشيخ بالوقوف من مقامه وتحيتهم.

سأل المحقق الغلام: هل حقاً تعرف الإرهابي؟.

أجاب الغلام وسط صمت الجميع وانجذابهم نحو المسرح: نعم.

ابتسم الشيخ مهودر وأشار بإبهامه الى الشيوخ الحاضرين: خلاص.. أمورنا بخير.

قال المحقق للغلام: ممكن تحچيلنا تفاصيل معرفتك بيه؟.

التفت الغلام الى أبيه الشيخ متردداً، فأومأ إليه أبوه بالعزيمة، والحضور كلّهم قاموا من أماكنهم، بين جاحظ لعينيه، وحابس لانفاسه، وآخر يسحب الدشداشة من بين دفتيه، وثالث ينفض ما علق به، والنساء من البيوت صامتات، تركن غسل الصحون وأسكتن الأطفال، رقدت الطيور بكل هدوء على الأعشاش، توقفت الأشجار عن الصفير، حتى الحمير التي على قارعة الطريق، انتصبت آذانها وشدّت أعناقها نحو مشهد التحقيق، وصار الموقف جد حساس وخطير

قال الغلام : 

.

.

: أكو عندي صديق بالفيس اسمه الرجل الغريب، مسوّيلي تلَث لايكات، اتوقعه هوّه هذا!.

..

بعد اسبوع على الحادث .. طلق حميد زوجته وخرج في زيارة ولم يعد، موحان، ضرب ابنته على أنفها المُعدّل وصار لها أنف القرنابيط، حمدية نقضت عهدها، وكشفتْ لأهل القرية ألوان ملابس ليلى الداخيلة، قصاب الحيّ بتر أصابع نصف أهل القرية، غلت الأسعار في كل الأسواق، والغلام راقد في مستشفى لعلاج الكسور، والسيارات المفخخة تنفجر في القرية بين يوم ويوم.