العراقيون يكرهون (الحسين)!

 

لم يكن الحسين في خروجه الثوري الى كربلاء، سوى رجل رفض ان يكون تحت وصاية نظام كرّس السلطة على انها "حق شرعي"، وطيلة المسرى الحسيني من المدينة ثم مكة وصولاً الى كربلاء، لم يصرّح برغبته ان يكون بديلاً عن "السلطة". إيمانه المطلق بحريته الفردية وشعوره العميق بالمسؤولية الاجتماعية برفض مصادرة الرأي، واخضاع الناس الى رغبات ما تشتهيه السلطة في "تنصيب" حاكم، وتأسيس دولة موالاة بدلاً من تأسيس دولة غير مشروطة.

رفضُ الحسين لحكم "يزيد"، هو رفضٌ "مدني"، انطلاقاً من رغبة الاخير وعائلته احتكار السلطة وتوريثها. وبالمقابل الهاشمي القرشي لم يكن له مشروع سياسي بديل. بمعنى انه لم يطرح ذاته بديلاً عن سلطة الحكومة الأموية الناشئة حينها. ولعل وقفته مع "عبد الله بن عمر" و"عبد الله بن الزبير" في "المدينة" ورفضه "المبايعة" كانت دليلاً غُيّب قسراً من قبل الشيعة والسُنة على حد سواء. فبعض الشيعة اختطفوا الحسين وافرغوا ثورته التحررية انتصاراً لمبدأ الشورى في تسمية "الخلفاء" الى منطقة المطالبة بحق الولاية، وهو ما لم يطرحه مطلقاً ولم يلمح اليه. وما كان الناس حيث مات معاوية وأٌسلم الامر الى "يزيد" لترفض. فالصراعات الدموية التي شهدتها خلافة "الامام علي بن ابي طالب" ومناخ الغموض المريب الذي لف تلك المرحلة، والانشقاقات الصارخة في جسم الدولة الخلفائية، جعلت الناس في موطن شكٍ وخوف. ولأن الحسين رجل قرشي منحته الرفعة الاجتماعية، ارستقراطية ووجاهة، وتمتعته باستقلال مالي عن "الدولة" فضلا عن مكانته في الجسم الاسلامي، حتمت عليه الخروج من اجل تحرير الناس من الوصاية والفساد السياسي والمالي والمحسوبية والعصبية القبلية، ومثله فعل "عبد الله بن الزبير".

وان كان الحسين قد قتل في كربلاء، وهي منطقة صحراء على اطراف الكوفة والفرات، فابن الزبير صاحب الموقف المشابه لموقف الحسين قتل عند استار الكعبة. وهدد السلطة الاموية واصابها في مقتل، اكثر مما هددتها "الحركة العسكرية" للحسين. لكن الفرق بين التمردين العظيمين، تركز في ان "الحسين" كان صاحب مشروع تغييري ينطلق من ايمان الفرد بحريته الذاتية المحضة في بناء السلطة والدولة، بينما عبد الله بن الزبير كانت حركته قائمة على اسقاط السلطة واعلان الدولة الزبيرية. وهو ما تم على نحو ضيق في الجزيرة والعراق وبعض خراسان، حتى تولية عبد الملك بن مروان وقضائه على الزبيريين.

لم تأخذ الثورة الزبيرية البعد ذاته الذي اخذته الثورة الحسينية، رغم ان بشاعة القتل والهمجية الاموية كانت ذاتها. لكن موقف الحسين المتأسس على ترسيخ الحرية كحق طبيعي في التعامل مع السلطة برفضها او موالاتها، شكل رعباً حقيقياً في المنظومة الحاكمة. فالناس لم تعتد ان ترفض خليفة يمثل "النبي". والنبي يمثل "الله" وبضرورة ذلك تتحول "الخلافة" الى "ولاية الهية مطلقة"، ومنح "الرعية" او المواطنين حق نقض تلك الولاية يعني ان "مبدأ التوريث" البشري، افرغ من قيمته وبات رهينة رضا الناس من عدمه، طالما ان "الولاية الالهية" بذاتها مرفوضة. هذه هي لحظة الحسين الكبرى، وما عدا ذلك تفصيلات قد تحدث في اي ثورة وتمرد على السلطة. لكن بعض علماء الشيعة اختطفوا الحسين من موقع القوة الى نقطة الضعف و"الذلة" وصوروه على انه "بطل شعبي" مفروغ من العقل والحنكة والاشراق الانساني السامي الى مجرد محارب انتحاري.

العراقيون والتاريخ وقرون طويلة من القمع، عملوا جميعاً على تضييع اللحظة الحسينية البريئة الاولى في الانتفاض ضد الظلم الاجتماعي، والفساد السياسي والمالي، والتوريث، وتوظيف القيّم الدينية لحماية السلطة. ثورة الحسين ثورة مدنية عاقلة وناضجة، لا ثورة دينية انتحارية وغنوصية خلاصية، وبتحليل مقولات الحسين المتواترة والمسندة تاريخياً نجده يتحدث بصيغة المصلح الاجتماعي المدني، لم تكن السياسة همه، ومقولته العظيمة "كونوا احراراً في ديناكم" مقولة تختزل حركته الثورية وعمقها. الحسين قتل من اجل الحرية، لا من اجل ان يتحول الى رمز تستعبد به الناس وتذل.

ومن لطائف القدر ان استعادة ذاك الخروج الحسيني، يأتي في ظل زيادة النقمة الاجتماعية بغالبيتها الشيعية على "الحكومة الشيعية"، غير ان "العراقيين" لا يحبون الحسين. فالرجل المشبعة روحه بالحرية، لم يستطع ان يوصل نسائم حريته الى العراقيين. 

انشغل العراقيون بمواكبهم. بتعليق رايات استوردت من الصين الشيوعية "الكافرة" بملايين الدولارات كسلعة تجارية تقنع عقولا "ساذجة" ترى حتى في القماشة الملونة قدسية تستحق الموت دونها، لكن لا احد نظر عميقاً الى روح الحسين الذبيحة من اجل ان لا يستعبد الناس احداً، ويحولهم الى قطيع. ثارت ثائرة عمال في البصرة ضد مصري وبريطاني مزقوا قماشة عليها "رسم" تخييلي للامام الشهيد. ولم تثر ثائرة 9 محافظات "شيعية" لكرامتها وانسانيتها وحقها بالحياة ضد السلطة، بعد ان غرقت مدنهم وبيوتهم وتعطلت احوالهم بفيضانات سببتها الامطار، نتيجة الفساد المالي والسياسي في دولة يحكمها "الشيعة". اليوم الشيعة يحكمون الشيعة في العراق، لكن السلطة هي ذاتها متكبرة ومتعالية ومستعبدة للناس، لا تعطي لهم حقاً في الحرية ولا الكرامة ولا الخدمات. فأن لم يستلهم الشيعة المتعصبين حباً، الحسين لاجل كرامتهم وانسانيهم، فأي رمز اذن يستفز عبوديتهم. فأن لم يستطع الامام العظيم عبر ملحمته ان يخرجكم من غياهب الجهل والاستكانة، فمن سيخرجكم. انكم "تكرهون" الحسين