حكاية من الثمانين !

الزمان سبات في آخر الليل والمكان بلاد الوشايات والغزوات والتطبيل , حدث ذلك حين أتصل الرئيس بوزير الأعلام آنذاك وقال: 
(عندك ذوله اللي تسمّوهم فرقة الريف ُأشو من زمان ما مشاركين بالمجهود الحربي وما جاي أشوفهم بالتلفزيون , سوّيناهم موظفين و أنطيناهم رواتب وعفيناهم من الجيش , سمعت مخلصين وقتهم بالمكسرات , البارحه شايفينهم ربعنا تالي الليل, رفيق أبو أنمار لخاطرك راح أنطيهم فرصة يوم واحد بس , خلّي نشوف نشاطهم , وأذا ما بيهم نفع , عجل ياباه سووهم قاطع جيش شعبي وأخذوهم للبسيتين) .
جفّت الأقلام وطويّت الصحف فلا نفس بعد صوت الرئيس
كانت الجبهة مشتعلة خصوصاً البسيتين في النصف الأول من عقد الثمانين , كان فيه هجوم عنيف جعل الخبر ينزل على الهواتف الأرضية للمتهمين (قيد الوشاية) , نزول (الكومبريسر) على الأرصفة عند (التفليش) , لم يناموا في تلك الليلة وأجتمعوا في بيت أحد الفنانين , لم يجرؤ أحدهم على مناقشة الموضوع , قريحتهم الغنائية تفتحّت قسرياً لوحدها يحبوا بها حب البقاء لهؤلاء المرهفين المساكين, لتنفجر مثل البركان من الكلمات والأغاني والألحان , الملحنون جهزّوا في ليلة واحدة مقطوعات أطول من سمفونيات بيتهوفن و موزارت و باخ , الشعراء أبدعوا في قصائدهم بعد أن أنقذهم الكم الهائل من الفلكلور أقصد التراث خصوصاً الهوسات و العراضات و أراجيز الملّايات والدراويش , لم ينم حينها سكان قطاع (خمسه وعشرين) حيث البيت الذي أجتمعوا فيه , بسبب المواهب المنفلقة مع الضجيج , وبعد أكمالهم للتحضيرات أنطلقوا مع الغبش الى مبنى الأذاعة والتلفزيون في الصالحية من دون أفطار وهم يرتدون الزي الرسمي للفرقة من يشماغ أو غترة مع عبائة وعقال , فالأمر أخطر مما يتصوّر القراء , أما نجاة (الكبيرة وليست الصغيرة) أو (نقيب مع تكريم) , والأخير تسمية تطلق على الشهيد بعد أن يلف (عادة) بالعلم المكون من ثلاث نجوم ليحصل ذويه على سيارة (كرونا موديل واحد وثمانين) 
سجّلوا في ذلك اليوم ستة أناشيد وطنية , مع ثلاث أغاني فردية و أوبريت , كل العاملين في الوسط الفني شعروا بالتوتر الفاضح على وجوه أعضاء فرقة الريف حين شوهدوا على شاشة التلفزيون , حتى أعتقد المشاهد بأنه أمام شكل جديد لتلك الفرقة المليئة بكبار السن , فهم رغم عدم حلقهم لـ لحاياهم كانوا مليئين بالحماسة , ولم يعرف أحد حينها أنهم كانوا صاغرين لأمر دبّر بليل , أتذكر أن أحد أصحابي (أياد السامرائي الله يذكره بالخير ) شدّني الى شاشة في مقهى قريبة من جامع عادلة خاتون ليريني كيف تحولت تلك الفرقة الى كتلة نشاط , حتى أن الواحد منهم يريد أن يلتهم المايكرفون ويتدافع مع الذي قبله وكأنهم حصلوا على (نص بالدولة) على حد تعبير ذلك الصديق , دعونا نعود لعبد الجبار الدراجي وفرقته الفنية , لم يكتفوا بما فعلوا في ذلك اليوم المشهود بل أستحلفوا مدير التلفزيون أن يبث أعمالهم على مدار الساعة و يعيدها في اليوم الواحد مرات عديدة وأنهم سيبقون متوثبين لأنجاز أعمال كثيرة سيرفدون بها المجهود الحربي تعزيزاً لمايفعل الجنود ولن يبارحوا المبنى الا للصلاة و الذهاب لفواتح الشهداء من أقربائهم , كانوا فعلاً قد ألتزموا بالعبادة وأعلنوا توبة سريّة بينهم وبين الله , بعد ما طرأ عليهم من خوف يستدعي تحضير أنفسهم للموت فهو قريب , أما في الجبهة أو بعد عمر قصير أو طويل , فالكل يموت في نهاية الأمر , وفعلاً توفي الكثيرون , (موت الله) وليس من (عبد الله) فالأخير مكروه وهّذا عندنا عرف معروف , مؤلم أن لايسعنا المكان لنذكر أسماء تلك الفرقة , فلكل فرد منها حكايات طويلة , والأختصار هنا لم يأت من باب الخوف من الأجتثاث و التهميش , بل مصدره طبعنا في الأجحاف والتدليس , فهم مواطنون أدوا رسالتهم سواء مجبرين أو مخيرين , نفخر بهم رغم أنوفنا , يشفع لهم رصيدهم الرسالي الثري الذي تحول الى زوادة ذكريات لذيذة تخفف عنا في عصرنا المأبون الممنوع .
تلك الواقعة لم نرد منها التأليب على ما نرى من تحشيد قسري يقوده سلطان عقائدي ليسود به على خصومه الكثيرين , ولا نقصد منها أن نستعرض ما كان يحصل مع مايحصل الآن من توجيه , أنما هو تذكير لما يلاقي المبدع من تجاهل حتى ساعة حشد وتطبيل , يبقى الأغلب منهم مركونين , وعند الحاجة لهم يبيتون مثل السمك مأكول مذموم , وذلك مايحصل على مر السنين , لم يتغيّر من المشهد سوى شكليّته التي فرضتها الظروف , حيث كان السلطان يعاقب من لايراه مفيداً لمشاريعه بأن يخرجه من الحلقة الضيّقة المترفة ليرميه مع القطيع , أما اليوم فقد تغيرّ الأمر , فالعقوبة الشديدة يتلقاها المرء بمجرد الخروج عن القطيع , يعتبرها البعض مؤشراً لزيادة أعداد الجهلة أمام المثقين , ويقسم آخرون أنها ثمرة الديمقراطية التي تجعل الناس متساوين ! , وأمام تلك الرؤى المتضاربة لا نعرف الا حقيقة واحدة , وهي أن المواطن (خصوصاً المميّز المبدع) يبتلى دوماً بما يجنيه عليه السلاطين , فهم في أبراجهم العاجية متنعمين فيما القطعان الى حتفها تسير , أبحثوا عن كل ماترونه مناسباً من وصمات أو مثالب كما تفعلون دوماً حين تأتون بالفتن والشقاق من بطون التاريخ , لكنني أتوسلكم لمرات عديدة أن لاترموا بتبعات طرهاتكم على المواطن المسكين ,فالأحداث الجسام يديرها دوماً أصحاب القرار ولذلك نسميهم مسؤولين , فمن غير المنطقي أن يتنصل أحدهم مما يفعل ليخرج سالماً كما الشعرة من العجين , ومن غير الأخلاقي أن يدفع المواطن الجزية والدم و العمر بذريعة أثم الأريسيين , الزمن تغيّر ليس عندنا فقط , والقطعان المثقفة وليست الجاهلة هي وحدها تصنع المصير و تقوم بالتغيير كتحصيل حاصل وإن كره المتسلطين, و عساكم سالمين