كل وطني غيور ، هو مثقف بالضرورة !!

إذا ما تجاوزنا تحديد الصفة النوعية لرهط الأدباء والكتاب والفنانين ، فالغالب أن يتشكل في ذهن العامة من الناس انطباع مفاده ؛ إن كل من حاز على مؤهل أكاديمي متوسط أو عالي فهو مثقف بالضرورة . أي بمعنى آخر إن كل من اسحق لقب المثقف وتمتع بهالته الاعتبارية ، لا بد أن يكون قد تخطى مراحل تعليمية متقدمة ، منحته الجدارة الشخصية والأهلية المعرفية لأن يتبوأ هذا المقام السامي . بحيث أفضى ذلك – بالتقادم والتعود - إلى اختلاط فكرة الثقافة بدلالة هدف التعليم من جهة ، وسهل ، من جهة أخرى ، عملية انزياح قيم الأولى إلى حقل الثاني ، والعكس بالعكس . والراجح إن هذا الاعتقاد الخاطئ مبني على تراث متقادم ، كرسته أنماط من الفلسفات الاجتماعية والإيديولوجيات السياسية المعنية بشؤون بلدان العالم الثالث ، لاسيما تلك التي كانت رائجة إبان عهود مقارعة الاستعمار الغربي وحتى لفترات ما بعد الاستقلال . وذلك من منطلق دعاوى حمل شعوب تلك البلدان على محاربة مظاهر الأمية الأبجدية والثقافية بسلاح التربية والتعليم ، والقضاء على التخلف الاجتماعي والتأخر الاقتصادي بتبني الأفكار القوموية واليساروية . وبصرف النظر عن الصخب والضجيج الإعلامي الذي يحاول البعض إثارته حول دورهم الشخصي في رسم وتحديد مسارات الثقافة العراقية – حتى ليخال لك إن قائمة للثقافة لن تقوم ، ما لم تحمل بصمة هؤلاء الأدعياء – إلاّ إن أحدا"من ذلك البعض ، قلما ألزمته الضرورات المعرفية والمنهجية لإعادة النظر بنمط الأفكار والتصورات ، التي اعتاد أن يحملها عن المعاني المفاهيم والمصطلحات المتداولة في لغة التخاطب اليومي عن مثل ؛ الثقافة والهوية والشخصية والوطنية . ناهيك عن اهتمامه بطرح الأسئلة المتعلقة بالماهية الدلالية التي تفصح عنها وتحيل إليها مثل تلك المفاهيم والمصطلحات ، بالاستناد إلى طبيعة السياق التاريخي الذي تشيع في إطاره ، ومستوى الحراك الاجتماعي الذي تعبّر عن جدلياته . ولذلك شاعت بين أوساط الخاصة والعامة انطباعات وتصورات خاطئة مؤداها ؛ إن شأن الثقافة يقاس بمستوى التعليم الجامعي العالي ، وان اعتبار المثقف يتحدد بالمرحلة الدراسية المتقدمة . أي بمعنى أن لكل مستوى دراسي معين ، نمط من الثقافة مواز له ومعبر عنه ، بحيث تبدو ثقافة الأستاذ الجامعي – وفقا"لهذه العلاقة المقلوبة – أرفع من ثقافة الشخص الذي لا يمتلك مؤهلا"مماثلا"، حتى وان ثبت أن هذا الأخير يبزّ الأول في مجالات ؛ سعة الاطلاع وتنوع المعارف وقيمة الإبداع . وهو الأمر الذي استتبع تهميش العديد من المثقفين (العصاميين) - ممن شهدت لهم المنابر الثقافية غزارة الإنتاج وجدارة الإسهامات – واستبعادهم عن دائرة التأثير الفكري ، وعزلهم عن محيطهم الثقافي ، وإقصائهم عن ممارسة دورهم التنويري . لا لشيء إلاّ لأن ظروف خاصة وأوضاع معينة حالت دونهم والحصول على مؤهلات علمية عالية ، في حين إنهم في مضمار توليد الأفكار وإنتاج المعرفة ؛ لا يأتون بالجديد ولا يصوغون الحديث منها فحسب ، بل وكذلك يتبنون منها الأكثر جرأة في مضمار النقد العقلاني ، والأشد إنخراطا"في ميدان المساءلة الوطنية . هذا من جانب ، أما من جانب ثان ، فانه نادرا"ما أخذت بعين الاعتبار مسائل الانتماء للمجتمع وقضايا الولاء للوطن ،عند إسباغ هالات التكريم والتعظيم على هامات من يصنفون ضمن شريحة المثقفين ، ليس بالاعتماد على ما يتوفر عليه المعني من وعي وطني وحس إنساني ، وإنما بالاحتكام إلى ترتيب المراحل التعليمية التي تخطاها ومستوى الشهادات الدراسية التي حازها ، وهو الأمر برهنت مآسي الواقع العراقي على بطلانه وعدم صوابيته . فكم من استاذ جامعي استثمر تحصيله العلمي واستغل شهادته العليا لضمان مصالحه الشخصية ، حتى وان تقاطعت مع مصالح الوطن وتناقضت مع حاجات المواطن ؟ . وكم من كاتب وظف قدراته المعرفية لتأمين منافعه الذاتية ، حتى وان ألحقت الضرر بمظلومة ثقافته الوطنية ، وتسببت بإضعاف كيان شخصيته الاجتماعية ، وساهمت بتآكل معمار هويته العراقية ؟. ولعل هناك من يأخذ علينا اعتبار إن مجرد الإحساس بمشاعر الولاء للوطن والانتماء للوطن ، كفيلة بإسباغ هالة الثقافة على الشخص المعني وإحاطته بغار الإبداع الأدبي ، وهو ما تكذبه المئات - إن لم تكن الآلاف - من الحالات المعاشة ، التي تؤكد إن الفائض من تلك الأحاسيس والمشاعر النبيلة ، ليس بالضرورة أن يكون مصحوبا"بوهج الوعي وشعلة الثقافة . والحق إن هذا الاعتراض وجيه جدا"لو كان مفهوم الثقافة يندرج ضمن منظور العامة لها ، حيث كل من يستطيع التعبير عن رأيه بطريقة الكتابة أو الخطابة ، ولا بأس أن يكون ذا تحصيل دراسي جامعي أولي أو متقدم ، يستحق أن يقال له وعنه وحوله مثقفا"ويدرج بالتالي ضمن شريحة النخبة ، دون اعتبار لبقية الشروط والمواصفات التي لابد من توفرها بالمرء حتى ينال هذا الشرف الرفيع . والحال أن مفهوم الثقافة من السعة والغنى ليس من الحكمة ولا من

الصواب حصره وتضييق نطاقه ضمن هذا التصور الدارج والفضفاض ، بحيث يصبح كل من هب ودب بطلا"من أبطال من الثقافة . فشرط الثقافة لكي يتحقق في شخص ما لابد أن يكون هذا الأخير على قدر كاف من الوعي الاجتماعي ، بحيث يستطيع إدراك الحلقات الضرورية في سلسلة الجدلية الاجتماعية ، التي بالاستناد إليها وعبر مراعاتها يحقق المجتمع المعني نصاب وجوده كمعطى حضاري / إنساني ، لا كمجموعة غفل من الكيانات المتصارعة والعلاقات المتقاطعة ، هي اقرب إلى الطبيعة الفجة منها إلى الثقافة الراقية . ولكي لا أطيل فأقول ؛ صحيح إن التعليم بكافة مراحله ومستوياته ضروري ضرورة قصوى ، لاختصار الفواصل الزمنية والحضارية ما بين الجلافة والثقافة ، بيد أنه لا يعدو أن يكون سوى سبيل واحد – وليس الأوحد بالتأكيد – ضمن مجموعة نوعية أخرى من السبل ، التي يفضي إتباعها إلى بلوغ ذلك المأرب العزيز . وعندي – إن كان لي عند كما قال الجاحظ رحمه الله – إن شخصا"يعاني الأمية الأبجدية ولكنه يعي تماما"إن سيادة الأوطان هي أسمى من كرامة الأحزاب الفئوية ، وان وحدة المجتمعات هي أسمى من شراذم العصبيات الطائفية . أقول إن شخصا"بهذا المعيار الوطني والأخلاقي لهو عندي أفضل وأنبل مئة مرة من جميع السياسيين الطارئين ، وأدعياء الثقافات التحتية ، وحملة الشهادات الجامعية المزيفين ، ممن فرختهم مؤسسات التعليم الأهلي والديني بكل أسمائها وخلفياتها – ولك أن تسمي ما شئت من الألقاب والأوصاف – لاسيما ممن يقدم نفسه سابقا"ويسوقها حاليا"كمرشح للانتخابات البرلمانية المقبلة ، عبر دغدغة غرائز الناخبين والمتاجرة بحاجاتهم المشروعة وغير المشروعة ؛ إن من حيث تقديم المال الحرام والهدايا الملوثة بدماء العراقيين ، أو من حيث قطع الوعود لهم بان تعيين أبنائهم ضمن مؤسسات الدولة ، وتلبية نزعاتهم القبلية والطائفية والقومية ستكون في صدارة برنامجه الانتخابي ، كما لو أنه يمتلك شركة تجارية خاصة يراهن على توزيع أرباحها المقبلة بين المستثمرين ، وليس باعتباره شخصية عامة مؤتمنة على مستقبل بلد ومصير شعب ، فضلا"عن كونه منتدب للحفاظ على وحدة التاريخ والجغرافيا والثقافة والدين والهوية .