قصتي مع ساحر ماكاندو!


حينما ذهب عنا غبريال غارسيا ماركيز يوم الخميس الماضي، عادت بي الذاكرة إلى تلك الأيام حينما كان يظهر في السماء العراقية أسم جديد، فنسهر الليالي نترقب نجمه حتى يبين ويسطع، ويعلمنا من جديد فن الإبتسام بعد أن يبست شفاهنا من الحزن والموت. نعيد ترتيب كتبنا القليلة، ونرمي الكثير منها في الريح. وكانت خطة الساحر ماركيز في غاية البساطة، إذ لابد للسحر أن يختلط بالحياة ويغذيها كل يوم. وحينما دخلنا من بابه الأخضر وجدنا الريح والأمطار تعصف على القرى والبساتين سنين طوالاً بلا توقف، ووجدنا الزهور تتساقط من السماء، ووجدنا العزاء بأن الطاغية الكولومبي عندهم يعمر سنين طوالاً أيضاً، أي مثل طغاتنا تماماً، لكن أكثر ما سحرنا في بيت ماركيز أن العشاق يلتقون على الحب بعد سنين من الغياب والأسى. إنه خليط عجيب من الطغاة والثوار الحالمين، وهذا ما كان يناسبنا تماماً. لا بد من أن يأتي اليوم الذي نكنسكم فيه، أو نقتلكم لا فرق، ويبقى الحلم. لابد للجوع والمرض والموت أن ينتهي. يتجانس الشعراء مع الشحاذين، والمطربون مع الأنبياء والرسل، كله بإرادة العراقيين، وقوة الحلم. لابد للصمت من أن يتحطم، وهكذا كان.
أنا أتكلم هنا عن الساحر العراقي، ففي بداية الثمانينيات كان المهندس الزراعي إزريا شيبا زيا يعود إلى محلته الويمبي لينزع عن الجسد كل وساخة الروح. كان هو الآخر ساحراً من سحرة النصارى القليلين. وكثيراً ما كان يلحن في كلامنا، ويردد خوية... خوية. طلب مني يوماً كتاباً يتسلى به حين كان ينزل إلى الدبابة هناك، في الارض الحرام، فأعطيته "خريف البتريارك". عاد بعد أسابيع طويلة يبتسم على الطاغية العاتي في الرواية، ويضحك على طاغيتنا الذي يعيش في إنتظار المعجزة. إحتفلنا تلك الليلة بعودة الساحر إلى محلتنا، ورأينا النجوم العراقية تتراقص في الأعالي على ترابنا المضمخ بالدم. في تلك الليلة ركبنا زورق ماركيز الذي سار بنا في كل أنهار البصرة حتى تهنا في العباب. بقينا سنين ننتظر المعجزة، ولم ندر أن سحرنا قد فسد فأعادت المعجزة لنا كل الجنرالات الجدد. وجوه غريبة، ونجوم فالصو من التنك.
جاء من يطرق الباب. تلك هي جثة الشهيد إزريا شيا زيا. ولم تكن هذه غير عظام متفحمة.
ثم عاد الطارق بعد أشهر من جديد. هذه جثته الحقيقية. أخطأنا معكم. عرفناه من الصليب.
شكراً لساحر مكاندو الذي علمنا عراقيتنا الصحيحة. وشكراً للعراقي إزريا الذي أعطانا البسمة الصحيحة قبل الغياب.