السياسة والأمل..

(إلى صديقي الشاعر والكاتب مهند يعقوب)

هل تمثل قضية تدخل الدولة في الاجتماع البشري "مسلمة" لا داعي للارتياب بشأنها، أم أنها "إشكالية" لابد من فحصها باستمرار للتقليل من آثارها السلبية المتزايدة؟ وهل بإمكانها (بأجندتها وسياسييها)، أو يُنتظر منها، أن تتجاوز نفسها كمفهوم وكجهاز، أنشئ بدافع الهيمنة، لتسهم في صناعةِ إنسانٍ سوي؟
لقد تصور كارل بوبر أن الدولة واحدة من أكبر مصادر الشرور في العالم، وأنه كلما سحب الإنسان ملفا من يدها وتولى إدارته بنحو حر ومستقل كان أقرب لتحقيق سعادته. كانت أنظار "نبي" الليبرالية قد أبصرت نسخة من الدولة هي الدولة الماركسية في صيغتها اللينينية الستالينية، الوليدة عن المفهوم الهيجلي عن الدولة، وهي في نظره دولة عقيمة وشمولية وتدميرية. جاءت ملاحظاته بعد قرون من تأسيس الشعوب الأوروبية للدولة بمفهومها الحديث .. بعد مخاضات عسيرة وتجارب مريرة من النجاح والفشل .. في بناء الجيوش واستراتيجيات الحروب وتطوير القوانين وتشكيل أنظمة الإدارة ونمو الاقتصاد وظهور الثراء وتقدم التعليم وازدياد الوعي وانتشار الحريات واستتباب الأمن ... إلخ. كان متوقعا أن يحلم بضرورة التحرر من الدولة نفسها! بعد أن أدت مهمتها وانحلت في مؤسسات يمكن للاقتصاد الحر أن يديرها بمفرده. ولكن في مجتمعات أخرى لم يتعرّف عليها بوبر، وربما لم يكن معنيا بها، حيث أنماط الحياة، في جُلِّ أشكالها، تعود لما قبل القرون الأوروبية، هل تلقى تلك الملاحظات نفس المستوى من الجدارة أيضاً؟ في ظل تجمعات بشرية تختلف حول هويتها وحدودها وقيمها وأهدافها .. شعوب تعجز عن رسم برنامج ناجح لنهضتها .. شعوب تجهل معنى المواطنة وتطبيق القانون، ولم تستوعب من جرعات التحديث إلا حمى الاستهلاك وثقافة الترفيه .. هل تتمتع آراءه بالبريق نفسه كما هو الحال في سياقها الأوروبي؟ هل يعود إضعاف الدولة خيارا واردا؟ طيب، لنتخيل أننا نفعل ذلك!! ما عساه يكون البديل؟ الشركات الاستعمارية العابرة للقارات؟ أم القطاع البدائي للشركات الوطنية الخاصة؟! من سيقود عملية تحديث هذه التجمعات وعقلنتها من قيود الذهنيات المعرقلة؟ هل ستعود الفوضى خلاقةً أيضاً مع ما يتميز به واقعنا الحالي من فجوة، بل فجوات، بين شرائح (ولا أقول طبقات) الشعب في الدخل والتعليم والتربية وغيرهما؟! لقد استوعب بوبر ما بوسع الأخرين تسويقه من عبثية باسمه؛ لذا نجده يتحدث لاحقا، تحديدا عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، عن أهمية تدخل الدولة من أجل إقامة نظام تشريعي حديث وتطبيق للقانون، وأنه لا سبيل لإرساء الاقتصاد الحر دون تدخل للدولة محددٍ بهذين الأمرين، لينتهي بالقول: إن (الفارق بين دولة محدودة التدخل ودولة واسعة التدخل لا يعتد به مقارنة بالمجتمع الذي له نظام تشريعي ومجتمع لا يمتلك مثل هذا النظام) (درس القرن العشرين: ص55) وإننا دون هذا النظام التشريعي والسلطة الملتزمة بفرض القانون نقع ضحية للرشوة والفساد والسرقة. خاتما مرافعته بقائمته الشهيرة للأولويات الموضوعة على طاولة السياسي، وهي مثلث: (السلم (اللاعنف)، والحد من الانفجار السكاني، والتربية)، ولا شيء حظي بعناية بوبر كعنايته بالتربية وإعداد الأجيال القادمة.
لقد كتب العروي إحدى جمله الرائعة فقال: (لا يحصل تقهقر فكري وثقافي في مجتمع ما إلاّ عندما توصد أبواب الأمل في وجه النخبة الحاكمة) (خواطر:95) ويمكن أن نضيف لعبارته: (وسياسي) دون أن يقلل ذلك من صحتها. إن الواقع السياسي لتلك النخبة يشكل رافدا لا ينضب للنفسانية الاجتماعية الكئيبة والناقمة لشعوب منطقتنا، وما لم تتخلى تلك النخب عن تفاؤلها الرومانسي والدعائي المبتذل لصالح التفاؤل الواقعي المجسد في ممارسة شفافة وتخطيط ذكي، فإن تنامي مشاعر الإحباط لن تكف عن إرهاقنا أبدا.
هذه ضرورة علمية، وواجب وطني، وليست مجرد توصية.