غزيّة التي لم ترشد

الحرية .. كلمة

يؤسفني في هذه اللحظة الفارقة ، أن أفتّش في المعاجم والقواميس عن مفردات تليق بحجم التعازي والمواساة والرثاء والبكاء ، وقد عميت الأبصار ، واكفهرّت القلوب ، وأظلمت البصائر .
يحزنني أن أرى السفينة تغرق . تقاذفتها الأمواج من كل ركن ، وعصفت بأشرعتها الرياح والبراكين الهادرة ، ونحن قلقون ، مكتئبون ، وجلون ، مضطربون ، على غير هدى في بحر لجيّ الموج .
سئمنا من أوطان توضأت بالدم وتطهّرت بالنار . تحمّلنا ما يُطاق وما لا يُطاق . كرهنا الاحتفالات التاريخية . مللنا من الخيل والليل والقنا والبيداء ، ومواكب الضحايا ، والثارات ، وتوالد الأزمات ، وأيام العرب ، والمحن والخطوب ، وعظائم الأمور ، والحرب الضروس ، ومعارك التحرير ، والجيوش الظافرة .
تعبنا من غزيّة التي غوت ومن غزيّة التي لم ترشد ، والشرف الذي لا يسلم من الأذى حتى تسقط الرؤوس عن الأكتاف ، والأهداب عن المحاجر ، ونشرب إن وردنا الماء صفواً ونحن نشرب كل يوم السمّ الزعاف .
لماذا يذهب الأخيار من أبنائنا فداءً للأشرار الآثمين ؟!. وها نحن تلفحنا الفاقة ، ويمضّنا الجوع ، ويحرقنا الظمأ ، وتصيبنا أعمق الجراح . ولقد تجرّعنا من العذاب ألواناً ، وتجشّمنا الآلام ، واحتملنا الأهوال الثقال ، وعشنا ذروة المأساة الإنسانية .
نريد أن نأمن على ما بقي من نفوسنا ودمائنا ، من دون نعوش وجثامين وقبور وشهادات وجراحات ، ومحاصرة بيوت واقتحام أخرى ، ومسلحين بالبنادق والكواتم لترويع المطمئنين ، ومن دون الظل الذي يخاف من الخيال ، وتقارير المخبرين السريّين ، والعيون التي بالمرصاد .
اشتقنا إلى صفو وسلام بعد جفاء وخصام . اشتقنا إلى عيشة هادئة مطمئنة دون أن يكدرها زائر ليل يفتش في شراشف نومنا عن عطر حبيباتنا . دون أن نملأ استمارات تسألنا عن جدّنا السادس عشر . مللنا من دعاة الفتنة وأصحاب المواقف المريبة ومشاريع التقسيم والأقلمة والفدرلة . كرهنا الطاولات بأشكالها المستديرة والمستطيلة والمربعة . ضجرنا من الأوصياء على الثورات ، يهتفون على المنصّات ، ويتملّقون على المنابر ، ويسرفون في خداع الجمهور ، ويغرّون ويضلّلون ، ظنّاً إن الشعب قاصر جاهل غافل ، وهم فاسدون ولدينا على فسادهم ألف برهان وبرهان ، هم الشرّ كل الشرّ ، والخطر كل الخطر .
سئمنا من الأخبار والتقارير والصور والصحف والشاشات . وحرب الألسنة والحناجر والأقلام ، وفرسان الأصوات العالية ، ودواوين الحماسة ، ومن زعماء حكمونا بطشاً وعسفاً . مللنا من النابغة الفذ الذي ليس له نظير في التاريخ ولا مثيل . من الطغاة ، والمجانين ، والحكام المعصومين . تعبنا من الحوار بالمفخخات ، والرسائل المشفّرة بالاغتيالات ، والجُمل الثأرية ، واللحظة الثورية .
ضجرنا من تذاكر السفر ، وحزم الأمتعة ، وتفتيش الحقائب ، والأختام في الجوازات ، والوداع والمودّعين ، والوقوف أمام الشرطي في المعبر ، يسألنا ورؤوسنا قد انخفضت إلى الأرض في استسلام وإذعان ، فإذا هو الذلّ كلّ الذلّ .. دعونا نعيش .. نريد أن نعيش .