داعش ليس أسطورة

ليست العواصف الاجتماعية الفوضوية التي تجري في بعض مناطق المشرق العربي سوى تعبير عن انهيارات التحديث الوطني في العديد من الدول العربية وحتى في إفريقيا كـ(ليبيا).
كانت هذه الدول مثل سوريا والعراق قائدة لعمليات التحديث منذ القرن التاسع عشر الميلادي، وقامت بتطورات حديثة منذ الاستقلال عن الدولة العثمانية، لكن هذا التطور انتكس بسبب عجز الفئات الوسطى عن الالتحام بالصناعة والحداثة والديمقراطية ونمو رأسماليات الدول فيها التي عبرت عن طوائف ومناطق بدوية وأرياف متخلفة.
تجارب حزب البعث في كل من سوريا والعراق مالت من الفئات الوسطى الحرة إلى قوى الدولة العسكرية المسيطرة التي جلبت ووسعت حضور الأقسام البدوية وغيبت العدالة والتطور الوطني الشامل.
على مدى قرنين لم تستطع العواصم المركزية وقوى الحداثة في العواصم أن تطور من معيشة البدو والفلاحين، بل اهتمت في المراحل الأخيرة وخاصة بمصالحها الذاتية وبدت عمليات الانفصام بين المراكز والجمهور الرعوي الواسع الذي راح يتكاثر وخاصة بقدراته على زيادة المواليد ورفض قوانين الزواج والعيش الحديث.
تفاقمت الانفصالات مع التحولات الانقلابية العسكرية في كل من العراق وسوريا، وأخذت الأقسام البدوية بالتحرك من دون قدرة على الانفصال والأعمال العسكرية.
ودخلنا إلى مرحلة الانهيارات في بُنى الدول وهو أمرٌ يُلاحظ في اليمن، في بعض مراحله ومناطقه، وفي ليبيا الراهنة العشائرية.
إذا كانت المراكز الحضرية في المدن والعواصم تطور الاجتهادات في الفقه الديني، وانعكس ذلك على الفئات الوسطى، فإن الأقسام البدوية ظلت في فقهها المحافظ وكذلك في ثقافتها الدينية.
ولم تستطع هذه الأقسام أن تطل برؤوسها مع وجود الدول الوطنية المتماسكة، التي جعلت من هذا الفقه الإصلاحي قوانين، مجبرة الأقسام الرعوية والريفية على تطبيقه.
انهيار البنى المركزية بفعل الحرب الأهلية في داخل سوريا، حيث لم تستطع القوى الاجتماعية الوطنية أن تتحالف وأن تتعاون، قاد إلى فوضى القوى البدوية وقيامها بالسيطرة العسكرية والسياسية، وهو ما أثر على العراق وانفجر هو الآخر، وهذا لم ينفصل عن عجز رأسماليات الدول العسكرية في كل من إيران وسوريا والعراق على قيادة التطور التحديثي وإلى تفجير البنى الطائفية الساكنة خلال عقود بسبب رفضها للتطور الديمقراطي وقيادات البرجوازيات الوطنية السلمية النهضوية.
عادت القوى البدوية إلى ما قبل الدولة الوطنية وما قبل الحداثة وكأنها في القرن السادس عشر الميلادي، من دون وجود دولة كبرى كالدولة العثمانية تقوم بلجمها.
إن العودة إلى أحكام دينية قديمة متطرفة واستخدام العنف في العيش والغزو ما هي سوى جاهليات حاربها الإسلام التحديثي، بمحاولاته لجم الأعراب، وهذا أمر نلاحظه كذلك في أزمنة سقوط الدول المدنية المركزية كما حدث من خلال حروب الردة وثورات الخوارج وبني هلال والقرامطة وغيرهم.
إن عودة القوى البدوية لأسلوب معيشتها كما في القرن السادس عشر وغيره يصبغها بالعنف وحشود الغزو والإرهاب وقتل القوى المغايرة لها وتغدو المدن آخر المعاقل التي تقاوم هذا المد، ويعتمد صد ذلك على تحالف القوى الوطنية التحديثية المقاومة ودعم الدول العربية والعالمية.