الطائفية نتاج للصراع السياسي وليس العكس

السمة الأبرز والغالبة في الصراع الجاري في المجتمع وفي المنطقة اليوم هي الطائفية، وحين يتناول المختصون والإعلاميون والأحزاب السياسية الموضوع، فان قسما واسعا يذهب إلى أن الصراع الدموي الجاري، هو "بسبب " الطائفية ونتيجة لها، أي بسبب اختلاف المذاهب وتنوعها، ويمضي من ينادي بالحلول ابعد من هذا ليطالب " بالتخلص" من الطائفية وإقامة العلمانية أو ما شاكل. 
إن هذه التصورات تترك تأثيرها ولا شك على قسم واسع من المجتمع، وعلى الرأي العام عموما. ويزداد الأمر غموضا والتباسا عند البحث عن أسباب ومحركات الطائفية والمذهبية أو التعصب المذهبي والديني، حيث يعزوها البعض من السياسيين إلى التخلف الفكري أو الجهل، أو إلى قوة ونفوذ رجال الدين، ويرى آخرون انها نتاج للفروق والاختلافات الفقهية والعقائدية، ويرى فريق آخر إن انتشار بعض الطقوس والمناسك هي الأسس التي تقوم عليها الطائفية التي أفضت إلى التعصب ثم الصراع الطائفي فالحرب والاقتتال وانتهاء بتهديد كل الكيان السياسي للبلاد. 
وعلى أساس هذا التصور تتحدث قوى سياسية وكتاب عن ستراتيجيات وسياسات تطرحها كحلول للمجتمع، وهي تساهم إلى حد بعيد في تعميق نفس التصور لدى الجمهور؛ أي تساهم في طمس الصورة الحقيقية للصراع وجذره الاجتماعي.
لقد وجدت إن هذا التصور ينطلق من مفهوم مثالي للتاريخ والعالم، فهو يعتبر الصراع الاجتماعي والسياسي نتاج للأفكار والعقائد، وليس نتاج لحركة الواقع، ويعرف الصراع الطائفي على انه أساس الصراع ومنبعه وليس انعكاسا أيديولوجيا وفكريا لنوع من الصراع الاجتماعي.
ربما تلعب البنى الفكرية المتبلورة دورا في الصراعات وتوسعها أو تعمقها، ولكن في خضم ضرورات اجتماعية وأسس مادية للصراع، دون أن تكون هي أساس ومنطلق الصراع. 
لم تكن الحرب العالمية الثانية نتاج للعنصرية الهتلرية والعدوانية الألمانية، بل إن العنصرية النازية نفسها كانت انعكاسا للحاجة لإثبات الذات أمام الخصوم الرأسماليين، وخصوصا غريمي ألمانيا الكبار فرنسا وبريطانيا، الذين يفوقانها في سعة المستعمرات وتوفر رؤوس الأموال ويسعيان كذلك لإعادة اقتسام العالم.
تنطلق العنصرية النازية من ادعاء التفوق العرقي، أي المطالبة بنصيب من الرأسمال العالمي لا يقل عن منافسي ألمانيا بل يتفوق عليهما، أي إلى غطاء أيديولوجي لتبرير "الحق" الناجم عن التفوق العرقي الألماني المزعوم، والذي كان مجرد تطلع امبريالي أمام دولتين تستعمران أكثر بلدان العالم، كذلك كسلاح أيديولوجي بوجه الحركة الاشتراكية في ألمانيا وبوجه الاتحاد السوفيتي الناهض يومها.
إن نفس هذا التصور برأيي ينطبق على الصراع الطائفي، بدرجة أو بأخرى. حيث إن العديد من الأديان والمذاهب تنتهي إلى القول بان العالم قد خلق لأجل فرقتهم هم بالذات، وإنهم الشعب المختار أو المتفوق عرقيا أو الأنقى والأرفع درجة...الخ، وبالتالي فان الأمر يتعلق في خاتمة المطاف بالسيطرة على العالم، وليس بالمناسك والشعائر والطقوس. 
في مقال سابق حول الأساس الاجتماعي للتشيع، حاولت طرق الأسس والجذور التاريخية والاجتماعية للتشيع، كمحاولة لفهم مادي تاريخي بعيدا عن البحث في الفروق العقائدية والفقهية؛ وقد كان المقال عموما، خطوط عامة وإطار عام قابل للتوسيع وللتناول من زوايا وأبعاد أوسع. لقد طلب مني احد الأصدقاء العودة للموضوع وتحويل المقال المشار اليه إلى بحث موسع ليصدر في كراس، وقد وجدت المهمة بحاجة إلى الكثير من الجهد بل التفرغ لفترة؛ لذا رأيت أن أعود للموضوع، من خلال مقالات وفي فترات متباعدة، بحيث أتناول جانبا منه في كل مرة، لأن موضوع المذهبية والطائفية أصبح يشكل احد العقد في المنطقة، وفي العراق بخاصة؛ وهو يحتفظ بتأثير سياسي محوري وليس عابر، بل انه في اتساع.
حين عدت لمتابعة موضوع النزاعات الطائفية في العراق وتحديدا بين الشيعة والسنة، اطلعت على وقائع عن الحقب التي وقعت فيها هذه النزاعات، تكشف بصورة حاسمة عن إن النزاعات الطائفية في العراق وقعت حصرا في المراحل التي لم يكن فيها العراق دولة، أي كان تحت الغزو الأجنبي أو في حالة تفكك سياسي، ولم يقع الصراع يوما نتيجة لمناسبة دينية مختلف عليها أو لمناسك غير متفق عليها، فهذه الخلافات ممكن أن تعيش مئات السنين وتبقى محل نقاش واجتهاد، وليست مبررا يدعو للحرب والنزاع، بل ربما كانت بعض الاختلافات كثيرا ما تثير فضول الفريقين ليتعرف البعض على ممارسات لم يألفها.
إن التشيع او التسنن هو ليس الصراع الطائفي او النزاع المسلح المباشر، ولكن التسنن والتشيع تاريخيا هما، شأن الصراع الطائفي ينهلان من مصادر تاريخية واجتماعية، وليسا نتاج لمقولات وأحاديث مجموعة فقهاء.
أما تشكل المذاهب أو كيف ولماذا يجري تبني هذا المذهب دون سواه من هذه المجموعة البشرية أو تلك، فهو مبحث آخر يتعلق بـ كرونولوجيا تطور الأديان والأعراق والثقافات على السواء، بالإضافة إلى المصادفات والصدامات التاريخية والتحولات الطبيعية كذلك، أي باختصار انه بحث تخصصي خارج أطار عملنا هنا. 
وبالتالي علينا تحري جذورَ الصراع السياسي الذي انعكس بصورة صراع طائفي دموي في العراق. وليس البحث وراء خطبة هذا الشيخ أو ذاك الملا.
أول مواجهة دموية شيعية سنية شاملة وقعت عام 1508 أي خلال الغزو ألصفوي لبغداد، واستهداف السنة وقتل رجال الدين وهدم عتبات السنة ومراكز عبادتهم، على يد الغزاة وليس على يد أهل العراق من الشيعة، ولكن كون الهدف طائفي، يصبح الصراع في العراق سني شيعي. المواجهة الثانية كانت عام 1534 عند فتح بغداد على يد السلطان العثماني سليمان القانوني. والتي لم تؤد إلى مجزرة كتلك المجازر التي وقعت خلال الاحتلالات المتعاقبة للعراق، ثم مواجهة عام 1623 عند احتلال بغداد على يد الشاه الصفوي عباس الكبير، فيما وقعت أسوأ المواجهات دموية عام 1638 عند احتلال بغداد على يد مراد الرابع. 
أي إن أربعة صدامات طائفية عامة، وليس شجارات او معارك جانبية، قد وقعت خلال الاحتلال الصفوي فالعثماني بالتناوب، وكانت ساحة المعركة بغداد؛ هذا يقودنا للتصور بان غياب الكيان السياسي والهوية العامة التي تعرف المجتمع، واتخاذ المذهب أيديولوجية للحكم من قبل الغزاة، جعل الجمهور الذي جرى تصنيفه حسب المذهب، كموالي أو خصم للحاكم الجديد، يرى في القوة المنتصرة أو المهيمنة في المنطقة، حيث غياب العراق كدولة، هي " ممثله" السياسي أمام باقي القوى التي تبرز بصورة مذاهب، والتي أصبحت تشكل تهديدا له؛ وبكلمة تصبح السيادة السياسية والسلطة السياسية متعلقة بقضية سيادة المذهب.
كما إن كون الدولة الصفوية تتبنى المذهب الشيعي فيما الدولة العثمانية المذهب السني هو ليس اختلاف آراء وأحكام فقهية، انها مسألة سياسية وتاريخية أساسا. إن احد أسباب تبني الدولة الصفوية التشيع كإطار أيديولوجي وسياسي لها، هو للحفاظ على كيانها المشكل حديثا أمام توسع الإمبراطورية العثمانية وامتدادها جنوبا وشرقا، والتي ورثت الإمبراطورية العربية الإسلامية والإمبراطوريات اللاحقة لها. ومن جهة الإمبراطورية العثمانية فان تبنيها المذهب السني لم يكن عملا ارادويا او اختياريا لهذا الشكل دون ذاك من المذاهب؛ إن سعي الدولة العثمانية، لان تكون وريث الإمبراطورية العربية الإسلامية هو احد أسباب اتخاذها المذهب السني وهو مذهب الإمبراطورية العربية الإسلامية، مذهبا رسميا لها.
كما ان العثمانيين خلال الفتوحات العربية الإسلامية لم يكونوا يشكلون دولة مثل بلاد فارس التي احتلها العرب، وبالتالي فإنهم لم يتضرروا مثل الفرس من الفتح العربي الذي تسبب في الإطاحة بحكمهم التاريخي وألحقهم بالحكم العربي، بل على العكس فان الفتوحات العربية الإسلامية سهلت كثيرا للقبائل التي تشكلت منها فيما بعد الإمبراطورية العثمانية، التواجد في أواسط آسيا والاندفاع باتجاه الأناضول.
وإذا أمعنا النظر أكثر في الأوضاع العالمية المحيطة بتلك الحقبة، سنجد إن تشكل الدولة الصفوية لم يكن مصادفة تاريخية أو اتفاق مجموعة من الحكام أو الأقاليم، فالدولة الصفوية تشكلت عام 1500 أي خلال عقد شهد وقوع العديد من الإحداث التاريخية العاصفة والكبرى، اكتشاف رأس الرجاء الصالح1487 وخنق الشرق تجاريا من قبل البرتغاليين والمستعمرين الجدد، الأمر الذي أدى، بحسب بعض المؤرخين إلى سقوط وزوال دولة المماليك، عام 1492 شهد سقوط غرناطة آخر معاقل العرب، ثم اكتشاف العالم الجديد أميركا 1498، أي باختصار بداية تشكل العالم الحديث، وبالنسبة لإيران كان توسع الدولة العثمانية وانتشار نفوذها خاصة عقب زوال آخر معاقل العرب، وتحولها إلى إمبراطورية بديلة ووريثة، هو التجسم الأبرز للتطورات التاريخية التي تمس كيانها. 
والحال؛ كان تشيع إيران الصفوية، هو تأمين أيديولوجية للكيان الجديد الذي تشكل بفعل ضرورات تاريخية، وقد انعكس هذا الواقع، بل انتقل إلى العراق مباشرة، أو تم فرضه من القوتين الإقليميتين الجديدتين والمتطلعتين للتوسع.
كان احتلال بغداد يمتلك أهمية كبيرة، وخاصة لما لها من رمزية تاريخية ولموقعها الروحي والمعنوي، مما جعل الدولتين العثمانية والصفوية تتناوبان على احتلالها، وكل احتلال يسعى لفرض صبغته المذهبية، أي أيديولوجية دولته عليها، لتتحول إلى ميدان للمعارك الطائفية الدموية. ومن الناحية السياسية والتاريخية فان بغداد لم تكن عاصمة العراق، بل عاصمة الإمبراطورية العربية الإسلامية، وقد خسرت هذا الموقع بسقوط الإمبراطورية، وبالرغم من خسارتها لهذا الموقع، واحتلالها لعدة مرات، ألا أنها حتى ذلك الوقت قد لعبت دور العاصمة، بدرجة أو بأخرى، للأقاليم العراقية التي كانت تحت الاحتلال خلال حقب طويلة، وربما يعود جزء من هذا إلى كون بغداد قد ضمت في تاريخها مختلف الأعراق والثقافات، مما أهلها أن تحتفظ بصبغة مدينة شاملة وليست محلية، رغم عدم تشكل العراق كدولة. 
تلك الوقائع مثلت التجسم التاريخي، لنشوء الصراع الطائفي في العراق، وانعكاس الأبعاد العالمية عليه مباشرة.
أن يجري تكريس وفرض المذهب كقالب سياسي للمجتمع ، يعني إمكان التعبئة العامة القسرية من جانب، وحجب الفروق الاجتماعية بين الجماعات الاجتماعية من جانب آخر، وسد الطريق على نشوء وتبلور التيارات السياسية ، وحصر التطور السياسي في الإطار الذي حددته القوى السائدة. إن القوى السياسية الحاكمة اليوم في العراق أو المتنفذة، تعمد إلى استخدام نفس تلك الوسائل السياسية التي استخدمها الحكام الغزاة قبل قرون.
إن معرفة الأساس الاجتماعي والسياسي للصراع الطائفي، هو المنطلق والأساس لرسم سياسة تجيب على متطلبات الصراع، وتستطيع توجيه الأهداف وبناء ستراتيجيات انجازها. إن النظر إلى الطائفية كمعطى نهائي مصنوع خارج حركة التاريخ، أي في أذهان الطائفيين الذين يزجونه في المجتمع، هو تصور خاطئ، ولكنه سائد كذلك أو على الأقل واسع، وبالتالي فالاستنتاجات التي تبنى على ضوء هذا التصور لن تقود إلى أجوبة على المعضلة.
إن الخطوة الأهم هي التعرف الدقيق على الأوضاع الحية المعاشة للفئات الاجتماعية التي تتشكل من مجمل حركتها الطبقات والتيارات الاجتماعية، وبالتالي معرفة الضرورات التي تقود إلى تنامي وهيمنة هذا الشكل السياسي أو ذاك من أشكال الوعي والتصورات.
يتبــــع 

المصادر:
1. الشيعة والدولة القومية في العراق. حسن العلوي. 
2. حرب الفلاحين في المانيا. فريدريك انجلس
3. حول الدين. كارل ماركس وفريدريك انجلس.
4. نصوص حول الدين مع مقدمة بقلم العفيف الاخضر. لينين 
5. العروبة والعلمانية. جوزيف مغيزل
6. اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث. ستيفن هيمسلي لونكريك.
7. الايديولوجية الالمانية. الفصل الاول. كارل ماركس. فريدريك انجلس.
8. الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط . علي محمد محمد الصلابي. على النت.
9. قراءة في الجذور التاريخية للانقسام الشيعي السني في الإسلام رؤية غربية مقال في اربع حلقات. جواد بشارة.على النت
10. الجذورالتاريخية للطائفية في العراق. علاء اللامي. على النت.
11. الحرب العثمانية الصفوية 1532-1555. ويكيبيديا.
12. الدولة العثمانية. ويكيبيديا. الموسوعة الحرة.