أيها المثقفون العراقيون : تعازينا

كتبت هذا المقال في يوم اختيار سعدون الدليمي قائدا للثقافة، 21 كانون الأول/ديسمبر 2010 ، في وطن الثقافة والمثقفين. لكنني ركنته جانبا ولم أنشره في وقتها، عملا بمقولة (دع الخلق للخالق)، وباعتبار أن السمكة كلها، من رأسها إلى ذنبها، فاسدة، وسعدون ليس وحده الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب وفي الوقت غير المناسب. فهي سلطة حصص ومبادلات ومساومات وإكراميات .
لكن الذي استفزني وجعلني أقرر نشر المقال القديم هو مقال الفنان علي جبار في إيلاف بعنوان (استبعاد المثقفين الحقيقيين بداية لخراب آخر) والشتائم الظالمة التي حظي بها من أشخاص لا مجال للشك في أنهم من طرف مدير المركز الثقافي نفسه، أو من حاشية الوزير، لأن أصحاب تلك التعليقات الشتائم عددوا المدعوين بالتفصيل، من حضر منهم ومن اعتذر. ولعل اكثر التعليقات التي أثارت حميتي هو هذا الزعم عن زوج ابنة الوزير:
( حاصل على دكتوراه بالاعلام من جامعة لندن ، و ماجستير في السينما ، و ماجستير اخرى بادارة الاعمال،  بعد شتريد،  و اذا نسيب الوزير، كفوء لو لا ؟، هذا المهم .. بعدين اعطيه فرصة، اغلب المثقفين الكبار حضروا و اعطوه الفرصة).
طبعا لم يسأل صاحب التعليق نفسه عن تكافؤ الفرص. فآلاف العراقيين يحملون شهادات أعلى من شهاد المدير، ولهم خبرات قد تكون أهم وأخطر مما لدى صهر الوزير. فهل وضعت الوزارة شروطا ومواصفات للوظيفة وأعلنت عنها ودعت من تتوفر فيه الشروط إلى تقديم وثائقه لتختار لجنة محايدة وموضوعية ونزيهة أفضل المتقدمين؟
شيء آخر، حتى لو كان زوج ابنة الوزير هو الأكفأ والأكثر خبرة من بين المتقدمين فقد كان على الوزير تجاوزه وإرساله للعمل في وزارة أخرى، إثباتا للنزاهة ودرءا للأقاويل. ولكن يبدو أن الوزير غير مهتم ولا عابيء بلغط الثقفين العراقيين وشوكهم.، على أساس القافلة تسير، وأيام الوزارة قصيرة، وسلم لي على الدالة والعادلين في حارة (كلمن إيده إله). ))

صنفان من البشر لا يتوقف الجدل حولهما، من أيام آدم وحواء وإلى اليوم. واحد ٌيضع لنفسه ولضميره ولسلوكه ثوابت، يُسميها قيما ومباديء، ويؤمن بأن رجولته وإنسانيته وقيمته في الحياة تقاس بمقدار التزامه بها واحترامه لحدودها والدفاع عنها وعدم السماح لأحد بالمساس بقدسيتها مهما كان الثمن. وحين يصادف من يساومه عليها ينتفض غاضبا، ويرفض الحيد عنها، حتى لو كلفه ذلك رزقه وأسرته وربما حياته. وفي تاريخ البشرية أسماءٌ كبيرة وكثيرة من هذا النوع الخالد الثمين. ونحن في العراق لنا تراث ضخم في الثبات على المبدأ والعقيدة تركه لنا رجال يستحقون بجدارة كل احترام وإكبار ومهابة.
بالمقابل هناك نوع آخر من البشر يرفض هذا المنطق، عن دراية وتصميم، ويعتبر المنادين به ُسذجا أو أغبياء أو فاشلين. فهو يرى أن الشطارة تبيح النفاق والانتهازية ومقايضة الأمانة والشهامة والنزاهة بالمنفعة. وهو، تبعا لهذه القناعة، يسخر من أصحاب القيم والمباديء، ويضحك ممن يتمسك بالرجولة والشجاعة والأمانة والنزاهة، ويعتبر ذلك نوعا من الغباء والجهل والحماقة. هذا النوع من البشر يتفنن في ابتكار ألوان الخداع والنفاق والغش والغدر، ويميل حيث تميل الريح، وحيث تكون المنفعة. فينحني للظالم، ويبارك القاتل، ويمجد الحرامي، ويكره الشريف ويسخر من العفيف. الانتهازية لديه واقعية. والنفاق لباقة. والمسايرة شطارة.
والآن أدخل في متن المقال. ومقدما أعلن أن كل كلمة في هذه المقالة عليها شهودٌ أحياءٌ لم يمت منهم أحدٌ بعد، والحمد لله، أطال الله في أعمارهم جميعا.
وزير الثقافة العراقية الحالي سعودن الدليمي صديق قديم، تعود صداقتنا إلى ما بعد سقوط النظام في 2003 بأسابيع.
يومها كان سعدون الدليمي مقيما في فندق فلسطين، يبحث عن عمل، وأنا مقيم في فندق الرشيد. وحين كنت أزور فندق فلسطين لألتقي برفاقي وزملائي الإعلاميين العاملين في الفضائيات العربية والعالمية كان يتنازل لي عن غرفته في الفندق، لاقضي فيها القيلولة، ويتحمل هو شظف التسكع في أروقة الفندق إلى أن أهبط وأعيد له المفتاح.
أنشأ، بعد ذلك بمدة قصيرة، مركزا للبحوث والدراسات، في مدينة المنصور. دعاني لزيارة المركز، وكان معي زميلي عبد اللطيف السعدون، فطلب معونتي بالكتابة عن المركز في الصحافة العربية، لعل بريمر أو أحد مساعديه ينتبه ويقرر دعمه باعتاره أول مركز دراسات في العراق الجديد. كتبت عن أول نتائج استبيان أجراه المركز مقالا في صحيفة الشرق الأوسط بعنوان (هكذا تحدث العراقيون):
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=180017&issueno=8985
ولأن سعدون يعرف عمق صداقتي مع عماد ضياء رئيس مجلس إعادة الإعمار IRDCفقد رجاني أن أصلح العلاقة بينهما، أملا في أن يدعم مركزه الجديد.  فأغتنمت فرصة احتفال أقامه مجلس إعادة الإعمار في حدائق القصر الجمهوري فدعوته لحضوره، وأدخلته بكفالتي وعلى مسؤوليتي. وكان العسكريون الأمريكان المسؤولون عن حماية القصر الجمهوري، يومها، يفرضون على من يكفل ضيفا أن يرافقه كظله طيلة مكوثه في القصر الجمهوري. وإذا وجدوا الضيف بدون الكفيل داخل المبنى يحاسب الكفيل ويطرد الضيف. لذلك تحملت ذلك، وتفرغت لمرافقة ضيفي سعدون، طيلة الاحتفال. 

صورة من حفلة القصر الجمهوري
من اليمين، سعدون الدليمي، باسم عباس حلمي، إبراهيم الزبيدي، إبراهيم أحمد، غانم الشبلي.

لم يصادف مركزه النجاح المطلوب. فعاد إلى السعودية، حيث يقيم وأسرته، بصفة لاجيء سياسي مع مجموعة من العسكريين العراقيين الذين هربوا من العراق في أعقاب غزو صدام للكويت.
في أواخر عام 2004، وكنت في زيارة قصيرة للرياض، دعاني صديق سعودي مكلف بالملف العراقي إلى حضور اجتماع مع مسؤول سعودي كبير لتقديم رؤية حديثة عن الأوضاع العراقية، وخاصة حول ما كان يدور في تلك الأيام من معارك (مليشياتية) في بعض المناطق. واقترح أن أصحب معي بعض السياسيين العراقيين المقيمين في الرياض. فدعوت لمشاركتي كلا من الدكتور هشام الشاوي، الوزير والسفير والأستاذ الجامعي الشهير، والمهندس وسام الصميدعي، وسعدون الدليمي. وحضر اللقاء مع المسؤول السعودي الكبير اثنان من مجلس الشورى ومدير مكتب ولي العهد وبعض العسكريين الكبار.
بدأ السيد سعدون الحديث. فوجئنا، جميعا، بنعرته الطائفية السنية المبالغ فيها إلى حد كبير. فقد أوضح للجانب السعودي أن المشكلة العراقية هي فتنة طائفية تغذيها إيران للانتقام من سنة العرق، وليس لها أي وجه آخر. وضرب مثلا على ذلك بقيام حكومة الأحزاب الشيعية (الإيرانية) باقتطاع مدن وقرى تابعة لمحافظة الأنبار وإلحاقها بمحافظة كربلاء بهدف جعل خط الاتصال بين العراق والسعودية تحت سيطرة هذه الأحزاب. وطالب السعوديين بتسليح السنة، وبالأخص أهالي محافظة الأنبار.
وللتاريخ أقول إن أول من تصدى لهذا الطرح الطائفي المتعصب كان الدكتور هشام الشاوي، ثم تبعناه، وسام وأنا، ورفضنا طروحاته المتخلفة، وأكدنا للمسؤول السعودي أن المشكلة العراقية ليست بين شيعة وسنة، بل بين وطنيين عراقيين، شيعة وسنة، ضد قوى عرقية واحزب تعمل لحساب هيمنة إيرانية معادية لكل عراقي يتمسك باستقلال وطنه وسيادته، ويطمح إلى إقامة نظام ديمقراطي عاقل وعادل وغير طائفي ولا قومي عنصري، وأن من الأفضل للسعودية ولكل الأشقاء العرب الآخرين أن يعملوا على تصحيح النظرة إلى المشكلة العراقية، وعدم الوقوع في الوهم الشائع عنها وعن دوافعها.
وتولى الدكتور الشاوي شرح واقع العشائر العربية العراقية، بالتفصيل، وهو الخبير فيها بلا منازع، فأوضح أن أغلب العشائر العربية العراقية تضم شيعة وسنة.
بعد ذلك اللقاء، وبالتحديد في آذار/ مارس 2005، وكنت مقيما في الأردن، فاجأني سعدون بمكالمة هاتفية من بغداد يبشرني فيها بأنه مرشح لمنصب وزير الدفاع في وزارة إبراهيم الجعفري التي كانت على وشك التشكيل. هنأته وتمنيت له التوفيق. سألته: ضمن حصة من الأطراف المتحاصصة أنت؟ قال أنا مستقل. أي أنه لن يأتي ضمن حصة الأطراف السنية المعارضة للأحزاب الدينية الموالية لإيران. سألت نفسي، يومها، لماذا سعدون دون غيره لوزارة الدفاع؟ وما علاقته بالدفاع، وخبرتُه كلهُا في جهاز الأمن، وحتى شهادة الدكتوراه التي يحملها كانت في شؤون الأمن، وخاصة في تفتيت الأحزاب الدينية، وبالأخص حزب الدعوة الإسلامي؟ ثم كيف حاز على رضا إيران وهو المحسوب على خصوم إيران وأعداء الأحزاب الإسلامية المتنفذة؟. لأكتشف بعد فترة أنه جاء بترشيح شخصي من عبد العزيز الحكيم وبموافقة إيران.
لم يمض على توزيره سوى أسابيع حتى أطلق تصريحا عجيبا غريبا أعلن فيه أن (إيران تعمل على استقرار العراق، وأنها تتعاون وتقدم كل ما في وسعها لضمان وحدة العراق وإعماره ولمحاربة الإرهاب فيه).
بعدها بأسابيع طار إلى طهران فأعلن من هناك، باسم جميع العراقيين، أنه يعتذر للشعب الإيراني عما ارتكبه النظام السابق بحقه من جرائم.
يومها هاتفني المسؤول السعودي ذاته الذي كنا قد اجتمعنا معه في الرياض، وسألني: (صاحبك إيش بَلاه، كيف ينقلب بهالسرعة من الإلحاح على مواجهة إيران وتسليح السنة إلى هذا الموقف العجيب؟)
وتشاء المقادير أن أسافر إلى السعودية صباح الأول من آب/ أغسطس 2005، وهو يوم وفاة الملك فهد بن عبد العزيز. وفي المساء كنت مع الصديق وسام الصميدعي على العشاء ففاجأنا سعدون الدليمي بمكالمة هاتفية من الرياض، وليس من بغداد، أخبر وسام فيها بأنه جاء ليعزي، ولكن بصفته الشخصية، لأن رئيس الوزراء إبراهيم الجعفري رفض ضمه إلى الوفد الوزاري الرسمي القادم للتعزية. وحين علم بوجودي مع وسام طلب أن يتحدث إلي. سألتُه سؤالا واحدا، قلت، أنت زرت إيران وزيرا للدفاع، أي أنك لست وزيرَ خارجية، ولا رئيسَ برلمان، وليست لك أية صفة تمثيلية سياسية رسمية أو شعبية تخولك التحدث باسم الشعب العراقي، فما الذي جعلك تعتذر لإيران، وأنت تعلم أن اعتذارَك هذا يُرتب على الدولة وعلى الشعب العراقي مسؤوليات وعواقب جسيمة، سياسية ومالية، خصوصا وأن إيران تطالب بتعويضات خيالية عن حربها مع صدام؟. عاتبني وسام، وقال، لقد قسوت عليه. 
سعدون عمل ضابط أمن صدام حسين، ثم أُرسله النظام إلى لندن على نفقة وزارة الداخلية، للتخصص في تفتيت الأحزاب الإسلامية المعارضة، وخاصة حزب الدعوة، لكنه لم يعد إلى العراق، وانضم إلى المعارضة العراقية في أعقاب غزو الكويت، وجاء إلى السعودية مع مجموعة من العسكريين العراقيين، ومُنح اللجوء السياسي، وظل مقيما في الرياض على نفقة المخابرات السعودية، ويتقاضى راتبا شهريا، مع سيارة أمريكية حديثة. وحين عاد إلى العراق، بعد سقوط النظام، أبقى أسرته في الرياض، حتى وهو وزير.
وفي وزارة المالكي الجديدة التي تمخضت عنها مائدة أربيل المستديرة في 2010 أعلن عن اختيار سعدون الدليمي وزيرا مرة أخرى. ولوزارة الثقافة هذه المرة. عجايب. فبعد مفيد الجزائري وثقافته وكفاءته وإنجازاته الكبيرة في فترة استيزاره القصيرة، تحولت وزارة الثقافة إلى سلعة تهدى إما لجاهل أو لقاتل أو لشرطي.
لا اعتراض لدينا على توزير سعدون الدليمي مرة ثانية. كان يمكن لنظام الحصص الجديد أن يكفافئه على (نزاهته ووطنيته وخبرته النادرة) فيعينه وزيرا للداخلية، مثلا، أو مديرا للأمن العام. لكن أن يُعين وزيرا للثقافة فهذه شهادة بأن العراق بلا ثقافة وبلا مثقفين، ولا يصلح أيٌ من أبنائه المبدعين، وهم بعشرات الآلاف، لقيادة هذه الوزارة الهامة جدا، خصوصا في هذا الزمن الصعب الدقيق.