مؤسس كتابة تواريخ المؤسسات في العراق, الخبير كابتن كاظم فنجان

مضت بي دورةُ الأيام , قبل عقدٍ من السنيين , الى أن أكون في مدينةِ صناعةِ السيارات , الأعرق و الأشهر في العالم : ديترويت ! في وقتٍ كانت تحتفل فية شركة صناعة السيارات العملاقة : فورد , بالذكرى المئوية لتأسيسها . و في أجواء ربيعية تلقي فيها الشمس الباردة نورها بعذوبة , فتزيد من تألق بهجة المحتفلين . و بهذه المناسبة أصدرت هذه الشركة كتابا وثائقياً تاريخياً ضخما , أثرت صفحاتة مائة عام من الإبداع . إباع يكمن سره في قوة خيال المؤسس الراحل هنري فورد . و قدرتة على نمذجته في الواقع . الثروة و الخيال و الامل و الدراية و المثابرة معا أثمرت هذه
الشركة الرئدة , وجعلت منها مفخرة لجميع البشر و منفعة قل مثيلها , فاستحقت كتاباً يؤرخ لهذه المفاخر و يوثق أطوار استحالتها . كان مكان و موعد توقيع هذا الكتاب الضخم في صالة مكتبة بوردر الشهيرة, مساء عطلة السبت . تكدست هناك مئات النسخ من هذا الكتاب . معروضة للزبائن الراغبين بتزيين صفحتها الأولى بتوقيع المؤلف , الغلاف يزهو بلونه الأزرق اللامع , والازرق هو اللون الرسمي لعلامات سياراتها. تزين الغلاف صورة سيارة فورد قديمة فاخرة تقودها سيدة امريكية يشع وجهها بابتسامة عريضة
عنوان الكتاب المختصر هو :- Hnery Ford .. Weels for the world هنري فورد : عجلات للعالم ومؤلفه Professor Douglas Brenkley( و ترجمتي الشخصية للعنوان هي : هنري فورد عجلات سرعة لهذا العالم ! بقلم البروفسور دكلص برينكلي )
و ساعتها كانت فترة انتظار البدء بحفل التوقيع , و للتسلية إستمرأت عادتي القديمة المحرجة التي لم استطع خلاصا منها و هي تصفح وجوه المارة أو المنتظرين و اطالة النظر في ما اراه طريفا و غريبا و ملهما لخيالي في ان اخترع تعريفات مخترعة للشخص الذي يلفت وجهه نظري و وأبدا في نسج سيرة شخصية له , حتى اذا وقعت في حرجِ إنتباه الشخص و مبادلتي إياي النظر باستفهام أو إستغراب ! فانني و على الفور ارتجل سببا للحديث معه و التعليق على شئ ما يبرر تركيزي هذا .و هناك حكايات و مفارقات ولدتها عادتي المستعصية هذه.
و بالفعل رايت في الصالة شاباً بوجهٍ لحيمٍ مكتنز . طافح بالبشر و التبسم , تتوجه خصلات شعر كستنائية لا تستقر على حال . فتزيد حركة رأسه الدائبة لتعديلها , من خفته و طرافته . له هيئة مندوبي الاعلان دائمي التبسم , يلبس بدلة غامقة عريضة , تزيد من منظر قصر قامته . هذا القصر الذي يتلافاه بلبس حذاءٍ مرتفعٍ معقود بإحكام يبدو معه كأحذية السلامة . إستطرفته و بدأ خيالي يخترع له سيرة حياة و مهنه , كان يحمل بيده نسخةً من الكتابِ الثقيل , يضمها الى صدره , تصورت بائع كتب كما يبدو , وانه يريد ان يغلي من ثمنها ,اذ يعرضها بتوقيع المؤلف . او أن يجعل من هذا
الاهداء والتوقيع مدعاة للتباهي الشخصي , بعدها جاء نداء منسق الحفل بمكبر الصوت الخفيض يعلن بدء حفل التوقيع . فتقدمنا و أنا لم أزل مستغرقاً في تأمل هذا الشخص و إختراع التفاصيل الحياتية له , إنتبه هو الى لجاجتي و لكنه بادلها بابتسامةِ ترحيبٍ حييه , فخجلتُ و هرعتُ لحظتئذ الى مهارتي و دُربتي في إرتجال دواعي الاهتمام ,ركزت نظري على كلمة عجلات في عنوان الكتاب الذي يحملة و قلت له ملاطفاً : ما دامت للعالم عجلات الآن , فلنسرع بها ولنصل الى طاولة التوقيع قبل وصول المؤلف , فاتسعت إبتسامته , مد ذراعه خلف ظهري بلطف ليقدمني أمامه وقال : إذاً
تقدم
خطوتين الى الامام لتصل قبل المؤلف . و ما إن تقدمته و وصلت الطاولة حتى تجاوزني و استدار يجلس خلف الطاولة متحدثا عن الكتاب و موقعاً للزبائين نسخهم المقتناة من الكتاب . اذا هذا الفتى الثلاثيني هو البروفسور دكلص برينكلي , مؤلف الكتاب , تولد عام 1966 وكانت مصادفة اللقاء به قبل ما يربو على عقد من السنوات. كما هو مؤلف العديد من الكتب التي توثق لتواريخ اشخاص مهمين ومدن و مؤسسات ( واذا شئت مزيدا من التفاصيل و الصور عنه لاتعدم ان تجدها في موسوعة الويكيبيديا و محرك البحث كوكل ) . يا لهذا النجاح السريع و المبكر , بمقاييسنا العراقية .. بالطبع.
كادت هذه الذكرى أن تذهب أدراج رياح النسيان , و لكنها عادت تلتمع , بعد أن قرأت كتابا جديدا للخبير المينائي العراقي الكابتن كاظم فنجان الحمامي ,و أنا لم أكد انتهي بعد من قراءة كتاب مينائي ممتاز سابق له . بسم الله ما شاء الله .
مدعاة تذكر ذاك البروفسور مقرونا بالكابتن , لها ثلاثة بواعث , أولها ما يتعلق بتقاليد العمل , فالبرفيسور عندما شرع بتوثيق تاريخ شركة فورد للسيارات , كان طريق الكتابة سالكا أمامه ,إذ أن جميع الوثائق المتعلقة بتأريخ الشركة منذ اليوم الاول لتأسيسها أو ما قبله محفوظة منسقة لا يعلوها الغبار و لم تطالها يد العبث و النهب و الإتلاف . كما وجد كتابا سابقين له في بلده سبقو بتأسيس مبادئ الكتابة في هذا الحقل , حقل كتابة تأريخ المؤسسات , فخففوا عن الكتاب اللاحقين مشقة معرفة ما ينغي و ما لا ينغبي التطرق اليه في الكتابة . أين تُستحسن اللمسة
الادبية الإنشائية الزخرفية الجمالية و أين تستوجب الصرامة الرقمية و المعلواتية , والإرتكان الى المنهج البحثي التاريخي العلمي فحسب . أم أستمراء السرد الروائي المشوق ؟
الكابتن فنجان يؤسس بحس وذوق أدبي فردي لكتابة توثيقية للمؤسسات العراقية , فما سبقه أحد من الكاتبين على هذا النحو الذي يسرد حقائق و حقوق الموانئ و يستعرض سيرة الآباء المؤسسين و الأبناء اللاحقين .
الباعث الثاني للتأمل بين سيرة الرجلين المعنيين بالتوثيق للمؤسسات الوطنية الكبرى . يحيلنا الى البدايات التعليمية الاولى و الحاضنة التربوية لتطوير مشاريعهم الفردية . نجد ان البروفيسور سار بكل ثقة في طريقه التعليمي محميا برعاية الدولة , ليعبر محطاته التعليمية واحدة بعد الاخرى و ينال شهادتها بلا عوائق , بينما كاتبنا الصديق كاظم فنجان كان كمن يشق طريقه بين الصخور, إشتهر في بداياته الدراسية بتفوقه الدراسي الباهر , اذ انه الأول نجاحاً في صفوفه صاعدا بسرعة و رشاقة السلم المدرسي الى أعلى ما يكون و لابد . ألا أن البحرية الواعدة بتعديل
الوضع المالي و الوظيفي و الاجتماعي لمنتسبيها اجتذبته , كما اجتذبت سواه من شبان الطبقة الشعبية , التي تتعجل حيازة رفاه معيشي كانت المهن البحرية تعد به . و هذه هي أول عرقلة للنمو الطبيعي لموهبة دراسية متوقدة . ولكنه ظل شعلة ذكاء متوقدة يحلق عاليا في كل فضاء علمي ينفتح أمامه .كان من المتوقع ان يمضى قُدُما ليزاحم بأكتافه الواثقة علماء الفيزياء و الرياضيات العمالقة , و إن يسير في مسلكة البحري ليكون عالما عالميا في علوم البحار أو تصميم السفن الخارقة أو مبتكرا لمشاريع رائدة أو واضعا لقوانين ذكية لتنظيم الحقوق البحرية . و ما من مبالغة
في
هذا لمن كان يعايشه من مجايليه كما كنت أنا . و لكن ... كانت بانتظاره و انتظارنا جميعا مطبات مكر حكومة البعث التي كانت تدفع بنا نحن أبناء الجنوب الشيعة الى أن نرجع القهقرى . أو إن يلتوي حديد من يريد ان يتكيف معها , فتزيده رهقاً إذ يسير وفق ايقاعها الوحشي . و ما كانت تلحقه ضرورات التكيف مع أهداف الثورة ! من تشويهات محبطة و معرقلة للنمو الطبيعي للموهبة المتميزة . ناهيك عن زلازل الحروب و رعب تهمة درجة القرابة من معدومين بتهمة معرضة حزب البعث الهمجي . وانها لبطولة ذهنية ان يستجمع الانسان شتات فكره بعد كل ما جرى, و يعيد قدرته على الابداع بعد
مسيرة تيه طويلة في نفق معتم فاسد الهواء . فأي بروفسور كان يمكن ان يكون مبكرا كاتبنا الكابتن كاظم فنجان لو انه عاش حياة قرينه ؟. ومع كل الموانع التي قفزها ذهنه برشاقة فهد . فهو البرفسور الآن حقا , بقياس مجموع بحوثه في حقوق العراق المائية و توثيق تواريخها ومنهجة المطالبة بها . الى جنب ابتكاراته الإدارية البحرية . و سافشي سرا في انه بصدد الانتهاء من تأليف كتاب دراسي رفيع المستوى في علم الدلالة و إرشاد السفن في المياه الاقليمية العراقية . لا سابق لمثله في الدراسة الاكاديمية البحرية في العراق .
آخر البواعث التي ألحت على ذهني للمقارنة بين الرجلين . ان ذاك البرفسور المعني بتواريخ المؤسسات , يعمل و لابد مع فريق عمل متكامل , وهذا هو السياق الاعتيادي لصناعة الكتب . ترافقه مجموعة فيها مختص بعلوم الوثائق يتعقب المادة المطلوبة ويقدمها جاهزة للكاتب . و عمال طباعة يكتبون بسرعة البرق مادة مسودات الكتاب و النصوص المقتبسة المراد تضمينها و التي ترهق الكاتب أيما إرهاق في اعادة كتابتها نقلا . و المصحح اللغوي و البلاغي . و ناقد المادة . خبير التسويق الذي يشذب الفصول و يقترح تعديلاتها قبل دفعها للطبع ناهيك عن الوكيل الاداري و المالي
الذي يوفر للكاتب وقت التفاوض على حقوق تسويق كتابه . ماذا لوكانت للكابتن الكاتب كاظم فنجان الحمامي مثل هذه الخدمات ؟ و التي يجب حتما أن تكون له و الموانئ العراقية مقبلة على مئويتها قريبا .
ثمة إطراء لجهد الكاتب البروفيسور دكلص برينكلي , في كتابة الرحلة السحرية – العجائبية , يقول: اذا لم تستطع ان تتعرف على الولايات المتحدة في سياحة شخصية , فاقرأ كتابه الرحلية لتعوضك عن هذا .
و أقول أنا , اذا كنت ممن يريد يتمنى انه لو عايش الموانئ في أطوار مسيرتها , و لم يستطع . إقرا ما كتبه الكابتن كاظم فنجان عنها لتعيش ما تمنيت .