ضرغام العراقي والإيغال في لعبة الشعر!.. بقلم: الشاعر والاعلامي علي ابو عراق |
لعل من غير المألوف والمتعارف عليه أن يدرج الشعر تحت فضاءات ودلالات مفردة اللعب، فاللعب كما هو شائع ودارج عكس أو في الضد من موحيات أو مدلولات مفردات الرصانة والانضباط والفخامة والابتعاد عن الهامشي والسطحي، وربما يعتقد الكثيرون أن هذا التوصيف يسيء إلى علياء الشعر وحوزته المقدسه عند البعض باعتباره يتعامل (أي الشعر) مع المشاعر والوجدان والجمال بإبعاده الحسية والمعنوية من ناحية استاتيكية أي مع ما هو " ثابت وفوقي"، يعني انه يشتغل في منطقة "الفوقي المتعالي أو الرفيع" وهذا ما يجعلني ويجعل الكثيرين من المنفلتين من رقبة المواعظ المعرفية والوصايا الكهنوتية والأناشيد المدرسية، ينأون بعيدا عن هذا الفهم "السلفشعري" فحبس الشعر في سجن المتعالي والمقدس والرفيع مكانا ومحتوي، أشبه بعملية التحنيط التي كان يمارسها المصريون القدامى على ضفاف النيل لملوك الفراعنة أو عامتها على السواء، لإرسالهم إلى برزخ الظلام أو ترحيلهم إلى بوابة العالم الآخر، ولعل الشعر باعتباره المغامرة الكبرى للعقل الإنساني المثقل بالروح يقودهما أبدا هاجس إبداع عوالم جديدة متخيلة نابضة دافقة منفلتة من أسر المعايير والتحديدات القبلية، ومتمردة على كل التابوات التي شرعها اكليريوس العصور الجليدية للمعرفة، وهي التي تأتي محايثة ومتحرشة بالانطلوجي أو الوجودي، لذلك أن الشاعر هو أول من أطلق عليه أو استحق بجدارة مفردة "المبدع" وليس سواه من أطلق عليه هذا التوصيف بتواز مجازي مع المبدع المطلق، ولعل المثل الشعبي العراقي الشائع و المعروف (كال الله وكال الشاعر) يجعل من هذه التراتبية تدعيما إلى ما ذهبنا إليه، وعلى الرغم من التباين الكبير بين البشري وغيره................، والشعر كل الشعر وصفوته وخلاصته أن يكون الشاعر لاعبا وعلى قدر كبير من الدهاء والمجاهدة والحرفية في اللعب، فعلى قدر مغامرته وركوبه بحار اليومي الهائج وتحرشه بالأزلي والسرمدي والنسبي والمطلق، وتفجيره لقلاع كافكا وآلموت وسجون القياصرة ومنافي الأباطرة وعدم ركونه للجاهز والمنجز والمكتشف والسهل والرخيص الذي في متناول اليد ، وانقلابيته على كل شيء على الآلهة والبشر والطبيعة والقدر والمحتوم والحياة والموت والقبح والجمال والسكون والضجيج ليصل حد الانقلاب حتى على ذاته، على قدر ذلك يأتي ما يسمى الشعر الحقيقي، هذا الكائن الزئبقي الخرافي الواقعي على نحو راسخ، الذي لا يحده نظر، ولا يطوعه بشر، بل يذهب بعيدا أو قريبا بملء إرادته غير المحددة، لينتج التاريخ و الزمان والمكان الصور والشخوص والأفكار والعمق والظاهر والرفيع والعادي، والفرح والحزن والموت والحياة وكل المتواليات التي لا تنتهي، (هل ثمة من تخيل اليونان وإسبارطة دون هوميروس والإلياذة والأوديسة.....................؟؟؟)، هذا الكائن الذي روض العتاة وأبهج الرب وابغض سدنة الجحيم، وزف زفا مع رف عصافير الفراديس، وأمطر القلوب التي أجهدتها صحارى التيه والشتات بمطر الغبطة والرضى، وهو كذلك الذي فتح أيضا دروب الأمل واسعة أمام الباحثين عن النبل والجمال، أتساءل هل من المعقول أن يكون كائنا بهذا القدر من الصخب والضجيج والفاعلية والوهج والرغبة والجموح والمسؤولية والجمال والنبل أيضا، أن ينظر إلى هذه العام المأخوذ باللعنة والرعب والدهشة والضياع من محفته الملكية أو من عليائه المقدس...؟؟، أو "فوقانيته" الرطبة...؟، فعليه لكي يقتنص غزالات الوجد ونوارس السفن العائدة من الأقاصي السندبادية، التي نحرت الأمواج العاتية، واسكتت نحيب الليالي البليلة بتقاويم الموت والنسيان، التي لم ترسو بعيدا عن طواويس الذات التي المتسكعة في مرايا الشجون، والشطحات التي تنزل كالبرق على الدياجير فتشظي الممتنع والممكن، والنسبي والمطلق ، والقاصي والداني، وتوقظ ضجر المترفين من التخمة والدعة، ودموع اليتامى التي تتخثر كحبات كريستال على مآقيهم المعفرة بالرماد، هذا الكائن الذي يمتاح من غمائم دخان المواخير، ومن نواح الأمهات الثكالى والمفجوعات على السواء، من حبات عرق تتفصد على جبين عامل أو فلاح، ومن همهمات مترف تعته السكر فأحدث على نفسه، من غبار الأزقة وضجيج الأسواق وصخب نداءات الباعة والصمت الرهيب للأقاصي والمفازات والدهاليز الباردة، مقابل البوح الفج لثلة من العابرين، من كل هذا البون الشاسع والمفارقة والتلاقي والتعالق والتحليق والنأي والتلاقح يأتي الشعر ظافر ومباركا، ليعلن أن العالم على ما يرام وان الشمس لاتأتي من المغرب، من كل هذا اللعب مع خيول الحياة الجامحة، ومغازلة أول أشعة الشمس وآخر خيوط القمر، على نحو مفاجئ وغير مرتقب، بعد أن ظن الكثيرون بأن الشعر تداعى مجندلا عن عتبة الستينات أو السبعينيات، تطل علينا جوقة من شعراء أرضيين شعبيين عراقيين، لوحت وجوههم الشمس ، وعقدوا الأواصر مع العوز والحرمان، وعرشت على أظافرهم الأحلام المؤدة أو المؤجلة، قصائدا تغزو الصحارى المسكون بالصمت والقحط عواصفا خضراء، لكنهم لم يحترفوا الكهانة ولا كرزوا في محافل الفريسيين ولا انتحبوا تحت ظلال شيوخ المدائح الموسمية ، بل كانوا على موعد مع الشمس والغبار والحروب والسواتر والدبابات والمحتلين والمدن القتيلة والأمهات الثاكلات ، والأرامل اللواتي علمن التراجيديات أصول الفجيعة، والرؤوس التي حلقت كالحمائم المدماة في سماء الوطن أو في أي سماء، والنوافذ التي راب فيها الحزن وعشعش، من الجنوب من جنوب الجنوب، حيث الشمس أكثر وقاحة واشد وهجا وأسرع انضاجا للسنابل والقصائد، جاء علاء ياسين وعماد المطاريحي ، وعبد الحسين الحلفي، والميالي وغيرهم الكثير من النجوم التي سطعت في سماء الشعر الشعبي العراقي الجديد على الرغم من أنها لم تؤسس عتبتها الخاصة تنظيريا، فقد كان يكفيها تنظيراتها الشعرية ومنجزها المذهل، و ضرغام العراقي الشاعر المنحدر من محافظة الديوانية، من البارزين بين نجوم هذه الجوقة الأرضية جدا.......جدا ، بل التي برعمت على ياقاتها جروح ومحن الناس والوطن فأزهرت وطنا بديلا وشعرا لا يضاهى ، وضرغام احد اللاعبين في هذا المضمار، المتقن صولات الإيغال في لعبة الشعر كزملائه، ففي كل صباح يستدرج الشمس قبل موعدها لترسل أشعتها البكر بشغف على وطنه ومفرداته الأثيرة. |