بغداد الخلافة..

كنا نقول إن سقوط الموصل بيد "داعش" خبرٌ فانتازي. وسقطت، بل إنها اليوم "ولاية".

ماذا عن بغداد؟ هل سيكون خبرها خيالياً؟

وما دامت معادلة الأمن في العراق محكومة بما لا يعقل، فإنني أفكر بموكب الفتوحات الذي يقوده البغدادي يتجول في شارع الرشيد. ربما سَيُسحلُ النظام القديم، ضحيةً لبلاط الخليفة. وتنصب محاكم شرعية في "التحرير"، التي ستُسمى - ربما - ساحة الخليفة.

"داعش" تتفوق على النظام. وضعته أمام حقيقته الهشة، ومؤسساته الخاوية، وإعلامه الساذج. في الحقيقة، كان لأي عصابة خطف صغيرة أن تتفوق على النظام، وفي أحد عشر سنة كان يكفي لموظف صغير فاسد أن يفوز على شكل النظام الذي لا يملك غيره.

وكان استعمال مقولة النظام تجنياً، وتمنيا.

ولو تحققت "عاصمة الخلافة"، فإنها تتفوق على نفسها، لا على أحد.

واليوم، يشعر العراقيون، في بغداد على وجه الخصوص، بالغضب من سيناريو احتلال المدينة، ويستهجنون "الروايات الملفقة" - كما توصف - عن أن الأمر بات "وشيكاً جداً". إنهم، وبصوت الاستنكار هذا، الصدى المنطقي لمخاوف الناس، دون أن يتيقنوا من أن حصانة مدينتهم "أمر مدبر وحقيقي".

ويخاف الناس أكثر، لأنهم بلا نظام.

لقد فازت "داعش"، لأننا جميعاً نكتب عنها ونفكر بها، ونحتسب ونفترض خطوتها القادمة. حتى صرنا نفهم في الاستراتيجيات. نقول، إن داعش اليوم تحتل هيت. وهيت ليست بلدة نفطية، إنها ليست بأهمية "بيجي" التي لا تزال تتناوب بين الطرفين في جبهة قذائف الهاون. لكن أليست المقارنة بين هيت وبيجي فرصة ليقتنص التنظيم هذا الإلهاء العراقي، في احتلال كركوك. وبينما نفكر بالهدف الكردي الجديد، نتنبأ بأن بغداد هي الهدف الأهم، إنها نهاية النظام.

في الحقيقة نحن نفكر بالاحتمالات لأن النظام، مثلنا، يفكر. لكنه مثلنا يخاف. نحن والنظام ليس أكثر من أشخاص نخاف. ونحن بلا نظام.

ويشعر البغداديون، بأن الحبر الذي سال في تهجئة الفكر الداعشي، وخططه لإسقاط بغداد، يندرج ضمن الخيال، وإنه من وحي دجالين وضاربي رمل وغيب. لكنهم يكابرون على الفراغ الذي خلفه نظام لم يحقق "رواية" منطقية ليقول فيها: بهذه الطريقة لن تسقط المدن، أو في الأقل سنحافظ على العاصمة للنظام، وليس للخلافة.

لقد ترك لنا النظام، والحمدلله، تمجيد بغداد، كأنها الحبيبة التي لن تنام على فراش غيرنا. نكتفي بهذا كما يفعل الأعراب أيام الغزوات.

ويخاف الناس من داعش في بغداد. ويسألون عن احتمالات الغد في ظل الخلافة. كيف سيكون السقوط. بالنسبة للسنة، فإننا نحير من أنهم سنة غير الرمادي والموصل، تتفوق فيهم بغداد على "السنية"، وبين أن نقول: وماذا عن سنوات من العزلة والتلاطش مع النظام، أليست كافية لينهض السنة مع الخلافة. ونسأل: هل من مبيايعين في بغداد. أين سيحتشد الناس لاستقبال الخليفة، على الأبواب في العامرية، أم تحت شجرةٍ في تقاطع أبو جعفر؟. وبين هذه الحيرة لا يعرف أحد ما يريده السنة بالضبط؟

وليس الأمر واضحاً بالنسبة للشيعة. هل سيفتحون خندقاً عند دجلة من أجل حرب الدفاع عن المقدس. ثمة مليون شيعي في مدينة الصدر. أشيعة بغداد مثلهم في الجنوب. وما يفعل المُكفَرُ في حضرة الخليفة؟

السؤال السني والشيعي يتعلق حصراً بالاستعداد للحظة حمل السلاح في حرب مفتوحة. وفيها سيتقاتل طفلان على روايتين عن "ابن تيمية" و"الضلع" الذي كسر.

وهنا لن تسقط بغداد. الحمدلله! إذ أنها "سترتقي" إلى جبهة كونية بين الطوائف. وتستريح الجثث في النهر.

ألا يخلو هذا السرد من النخبة والقادة والضباط وصناع القرار، ألا يخلو من النظام؟

والناس تدافع عن بغداد. إنها غريزة التاريخ، وتقاليد حب البقاء على قيد الحياة. وفي الوقت نفسه، "بغداد" ليست مجرد أغنية رومانسية إلى هذا الحد. إنهم يريدون العبور وهي معهم، ويريدون الحياة وهي ليست ميتة.

هم العابرون بالمدن، وبالحياة.

ويبقى هذا "الأمل" مجرد أمل. لا رواية على الأرض تدعمه وتجعله يخضر.

ثمة جمهور منهار، وجيش يطلب منا أن لا نضر بمعنوياته، وسياسيون يقصون علينا الإيمان والرب الذي لا يتخلى عن مدينة إذا دخلها العابثون، وفي هذا الوقت يراقب الخليفة ما فلعه بنا.

ألسنا عراة أمام الخليفة؟

٠٠٠

أخيراً يظهر الحل. إنه أمل من لا أمل له. يقول: صحيح أن تجاربنا مرة مع الجيش، وصحيح أن داعش مثل مكوك فضائي يهبط في الغرب ويفجر في الشرق، ويقيم حفلا للنكاح في الشمال، في آن واحد. وصحيح أن نظامنا ليس نظاماً، لكن الأميركيين لن يسمحوا بسقوط بغداد. سيقدم أوباما استقالته، ويسقط البرلمان البريطاني حكومة ديفد كاميرون.

قبل هذا، أتتذكرون كيف برر النظام، سلفاً، سقوط بغداد. تقول حنان الفتلاوي إنه بدأ منذ أن توقف قصف المدن التي تحتلها داعش، وصار حيدر العبادي "داعشياً" دون أن يدري. ويقول السنة إن داعش صنيعة إيرانية، ليحافظوا على حماسة "الانتفاضة" ضد الفرس، وإنها أيضاً صنيعة أميركية قبل أن يطلبوا مساعدة المارينز في الأنبار.

هكذا، العراق يسقط يومياً بيد "داعش"، إننا ونظامنا نموسق لغتنا على وزن المقولة المتختصرة عن الدولة الإسلامية. إننا نراهن على مانشيت صحافي لم يكتبه الخليفة. إننا في الحقيقة مجرد رد فعل على حساب صغير في "تويتر" يملكه داعشي الكتروني. إننا لسنا سوى صدى متردد وخائف لأغنية "باقية وتتمدد". إننا نصحو كل يوم على صورة الخليفة لأن بغداد التي تخافون سقوطها تحمل صورة النظام، أو ظله.

عملياً، عراق الخلافة متحقق منذ أن عبثنا بمصير "البديل".