مساءلة الطائفية لا الطوائف

أفهم حرج كاتب حرّ يطرح سؤالا على طائفة وعنها، لا تدري إن هو سؤال استنكار أو تعجب أو يجيب على نفسه: "لو إننا نعرف ما يريده سنة العراق؟".

 

هذا هو سؤال الزميل علي السراي. إنه سؤال حساس ومعقد يستدعي بحثا متشعبا لا توفره كتاباته المختزلة، على الرغم من ذكائها وطريقتها في اثارة قضايا اعتدنا أن لا نثيرها.

 

يتساءل السراي بعد توطئة أراد بها توضيح حرجه: "لم كتبت هذه التوطئة، بينما كنت أكتب هذا السؤال: ما الذي يريده سنة العراق اليوم؟".

 

لا يجيب بوضوح. إنه الحرج نفسه. الموقف نفسه الذي تتقاذفك فيه الاتهامات من كل حدب وصوب. تكتب عن السنة فتبدو شيعيا، تكتب عن الشيعة فتبدو سنيا. تنطلق من احساسك بالبراءة والعدالة فيتصدى لك من يردك الى داعش. تنتقد سنيا فيرونك مالكيا، تنتقد شيعيا فيبحث عن أصلك السني.

 

هذا المأزق في الكتابة اختبرته أنا نفسي وكتبت عنه مقالا بعنوان "عندما تغدو الكتابة عذابا". بيد أن هذه الظاهرة امتداد للانحطاط السياسي على مستوى العلاقات بين الطوائف، وهو الجزء "الناعم" من ميكانيكية مجتمع منقسم بات لا يقرأ ولا يكتب ولا يتأمل، بل يشكك بالاسئلة الجوهرية التي تخصه كمجتمع موحد، ويظهر رد فعل ينتمي الى الغرائز لا العقل. مجتمع تديره سلطة طاردة للمثقفين والتكنوقراط، محتفية بحفنة من السياسيين عديمي الكفاءة، والذين زادوا سنيّة، وزادوا تشيّعا، وزادوا تعصبا قوميا، من أجل الابتزاز، وزادوا ثراءًبالطبع - في اللعبة السياسية التي سميّت العملية السياسية.

 

لكن "لو إننا نعرف ما يريده سنّة العراق؟". يظل سؤالا عن السنة بصرف النظر عن طبيعة العنصر البلاغي. وجزء من جواب علي السراي القانط هو أنه "سيشاركهم الحيرة من شكل المصير المقبل، بينما لا يفعلون شيئا لجعله لصالحهم".

 

إنها كتابة لا تخشى القول إنها في حيرة، ولا تخشى القول إن مصير السنة سيء، وإنهم لا يفعلون شيئا لتغيير هذا المصير.

 

في الظروف الحالية لا أحد من السنة الطائفيين يجيب على هذا السؤال، وإذا ما فعل فسيلقي مسؤولية أسوأ الأحداث على الطائفة الأخرى. لكن الكاتب الذي طرح السؤال هو من يجيب بحيرة تحتكم الى بعض الوقائع التي تطفو على السطح. واقع الحال أن السنة غير موحدين لكي نوجه إزاءهم سؤالا محيرا، أو نضمهم جمعا بسؤال. قد نفعل هذا، وباحتراس، إذا اعتقدنا أن النار التي أشعلها سياسيون أمسكت بثياب الطائفة كلها، ولا مناص الآن سوى أن تختار الطائفة بين إمكانات تعمل على تضييعها، أو تتعاون مع الآخرين والخروج من المأزق الحالي بأقل الخسائر. بيد أنها حتى الآن تبدو لا تعرف ماذا تريد: الاشتراك في الحكومة، الوقوف مع داعش، التهميش، الفدرالية، بل وحتى الانفصال.

 

إن مثل هذه الخيارات متوفرة في مقالة السراي التي ترى أن السنة ضائعون في طرق عديدة، ليلتقي باستنتاج بدا لي أن وظيفته تبديد حرجه الأول وهو أن السنة سيضيعون "سنيتهم". هل أراد بهذا أن يردّهم الى الوعي الذاتي بوصفهم كتلة تاريخية عليها ان تمارس دورها البنّاء في الوحدة الوطنية؟ لنقل إنه أراد تنبيههم الى مصير سيء يخسرون فيه كل شيء حتى سنيتهم. إن جميع الممكنات والوقائع التي ذكرها تبدو في غير صالحهم، فراح يذكرهم بـخسائر سيكونون مكرهين على تقديمها مجانا.

 

هذه النتيجة جاءت بسبب تبني قضية وليس الاكتفاء بوصفها من الخارج، تبني يعيدنا الى نفس السؤال المحيّر للعنوان. أرى - وأنا أثق بالعقلية الممتازة للكاتب - أن كاتبا حرا وديمقراطيا لا يمتلك أن يحل عقدة طائفة ضيّعت مصالح أبنائها من أجل حفنة من السياسيين المتعصبين او مجموعة مهووسة بالخلاف الديني. إنه في الحقيقة لا يستطيع ان يفض اشتباك نزاع بسيط يقع على جسر الشهداء الذي يربط الكرخ بالرصافة، ولسوف يوضع داخل اشتباك نفسي وعاطفي لن ينجو منه هو نفسه إذا ما اراد ان يحاجز فريقين مجنونين يصران على المشي على دروب التاريخ المتعوجة المليئة بالالغام والاشواك. إنه فرد أعزل، لا يمتلك الا اللغة، وهذا وحده كاف لتأكيد عفته ونظافة يديه وقلبه، وما يجعل منه كاتبا وليس طبّالا. إن معاونة طائفة في أن تجد موضع قدمها الضائعة محاولة معقولة، لكن في سياق أفكار خاصة لا تنبسط فيها جميع العلاقات السياسية التي تجد الطائفة نفسها فيها هي محاولة محكوم عليها بالفشل. أما إذا أراد إحراج الطائفة الضائعة، مؤشرا لها على الطريق الصحيح، فليحرجها من موقعه الوطني والديمقراطي وليس من موقع آخر. والحال عليه أن يتمسك بهذا الموقع وحده في كل المواقف التي تستدعي الفحص والحوار والتثبت. إن خياره هذا أكثر صدقية من مشاركة الطائفة الحيرة وانعدام الهدف.

 

شخصيا لا أخشى من أن يخسر السني سنيته والشيعي شيعيته، بل وأرحب بهتين الخسارتين، إذا ما ربحا، بالمقابل، وطنهما المشترك. اليس هذا هو المطلوب في النهاية؟ واقع الحال أن حلا علمانيا يعفي الاثنين من الخسارة، ويؤكد ربحهما المشترك، لأنه لا يشترط التخلي عن الطائفة بل التخلي عن الروح الطائفية بعداواتها التاريخية التي لا معنى لها، والتخلي عن العنف. هذا الحل يجد صعوبة في القبول بسبب الاسلام السياسي السني والشيعي. لكن حلا غيره، كالقبول بالفدرالية أو التقسيم، لا أظنه يؤدي الى التراضي، بل الى الحرب الاهلية. من المفهوم أنه حتى اختيار الفدرالية، والانفصال، يحتاج الى سلسلة تفاهمات، وفاصل سلمي واسع أشك في أن المنظومة الاقليمية والدولية ستوفره، وإذا ما وفرته فلن تفعل ذلك مجانا وبحيادية. إن اتفاقا يخرج من معركة دامية لن يكون سهلا إن لم يكن غير ممكن في الشروط العراقية، لأنه سيجمع كل الطائفيين في المنطقة في حرب لن ينتصر فيها الا الشيطان. إن سورية دليل على هذا، بل إن المثال السوري يشير الى أن الحرب الطائفية تنتقل بالعدوى، وهي تعكس المستوى السياسي المتدني واللاأخلاقي للقيادات الحالية في المنطقة كلها.

 

يقال إن الشيطان يكمن في التفاصيل، وعلي السراي الذي يختزل سؤاله، ومن ثم جوابه، ويقصره على السنة، يتفادى تفاصيل عمليات الميكانيكيا الاجتماعية التي ارتفعت درجة حرارتها بعد الاحتلال، وإن أشار الى بعض الاحداث المتناثرة منها. في تلك الميكانيكا من فعل ورد فعل، من تمركز وإعادة تشكيل المركزية بالمرويات التاريخية والاحداث المعاصرة وبعض الافكار الكاريكاتيرية، تنهض طائفية الطوائف كلها.

 

إن المأزق الحالي لا يقتصر على السنة. التفاصيل التي نتوقعها لا تقتصر على سلوك طائفة واحدة، بل سلوك كل الطوائف. إن الشيطان يكمن في الرواية التي يسردها شيعي طائفي وسني طائفي (وكردي متعصب!). وبوجه عام هو الاسلام السياسي الذي يتحدث ويشوّه الصورة ويثير الأزمة. أفضّل تسمية الاسلام السياسي على التسمية المباشرة لهذه الطائفة او تلك، فالاسلام السياسي، سواء كان شيعيا او سنيا، يفكر بألفاظ الصحوة، وبرنامجه هو إعادة الناس الى الاسلام، بعد أن أبعدتهم "الحداثة" عنه. هؤلاء هم معلمونا الجدد الذين لا يتوانون عن معاقبتنا بشتى العقوبات لكي يحسن إسلامنا. إن فتحا جديدا لمكة قائم على قدم وساق، والهدف المباشر هو السيطرة والتحكم، أي السلطة، من هنا تكاثرت وجوه الاسلام ومروياته وبات سياسيا صرفا كالعلقم. لم نعد نعرف اسلامنا الحقيقي عن هذا الاسلام الجديد، إنه ليس هو، ليس ايمانا، ولا سعيا للخلاص الروحي، بل شق للصدور والتنقيب فيها بحثا عن عدو، أي أنه يتصرف كشيطان يبحث عن نظيره أو عدوه. إن الأسلمة بهذه الطريقة هي روح الشيطان الحقود الذي سيقفز بعد تقليب أوراق العلاقات السياسية بين الطوائف. كم عدد الخطوات التي تفصل اسلاما مسيّسا كهذا عن اسلام داعش؟

 

والآن علينا أن نبدد أي وهم بشأن مأزق هذه الطائفة أو تلك، فالجميع في مأزق، وقبل ذلك، الاسلام في مأزق، وعلينا انقاذه وانتزاعه من براثن الهمجية السياسية الجديدة التي أظهرت في فترة قصيرة أسوأ ما عندها: التآمر، العمالة للاجنبي، اللصوصية، القتل والتمثيل بالجثث وقطع الرؤوس والحرق ونبش القبور والاغتيالات والتهجير واحتقار المرأة، وأخيرا تحويل الدين الى طقوس فاقدة الروح.

 

على ذكر الخسارة، ما عاد السنة والشيعة هم أنفسهم منذ عام 2003. لقد أدخل في روع السنة أنهم خسروا السلطة، في حين أن السلطة لم تكن بيدهم كطائفة، بل بيد نظام شمولي جاء بعد انقلابات عسكرية متتالية. من يقول بغير هذا يبرر الحالة الراهنة، ويبني رأيا على تفوهات شعبوية أكثر مما يحلل العلاقات الطائفية من الناحية السياسية. بيد أن السنة في العمق خسروا حقا، أو في طريقهم الى خسارة مذهب غالبيتهم العظمى على يد السلفيين والاصوليين الارهابيين كالقاعدة وداعش، وأعني به مذهب الرأي لأبي حنيفة النعمان. لم تأت خسارتهم عن طريق مناظرة في المذاهب، بل عن طريق العنف واغتيال رجالاتهم البارزين والمحنكين. إن صناعة بيئة سنية حاضنة للارهاب لم تأت عن طريق سلمي أبدا، بل عن طريق تعاضد موضوعي بين السلفية الجهادية الغريبة عن البيئة الثقافية العراقية، وتفاهة النظام السياسي الحالي الفاسد وأخطائه التي لا تغتفر، والتدخلات الاقليمية والدولية السافرة. اسألوا في هذه الوقائع الشيخ أحمد الكبيسي الهارب من القاعدة ومن السلطة الحالية، بل اسألوا رجلا علمانيا من مثل وفيق السامرائي الذي تطارده مادة 4 ارهاب الحكومية بالرغم من أنه ظل وفيا في معاداته للديكتاتورية ومؤيدا للنظام الحالي - مع بعض التحسينات.

 

والآن فإن شيعة الحاضر ليسوا هم شيعة الماضي، فمن يرشدهم ليس المرجعية الدينية الحكيمة التي كانت دائما قريبة منهم وحدها، بل والاحزاب والتيارات السياسية الدينية التي باتت تدير السلطة. هذه الاحزاب متخبطة، تدير رأسها من دون تنسيق: الطائفة والسياسة والمال، ترفع السقوف وتخفضها حسب ظنونها، تكره الحداثة والديمقراطية لكنها متمسكة بالدستور وبالانتخابات، تفضّل سنّة الحزب الاسلامي العراقي على الكرد والعلمانيين والديمقراطيين واليساريين. ولأنها غير مدربة سياسيا، فقد انجرّت لمخططات الارهاب في سياق الفعل ورد الفعل، خالطين بذلك الأوراق.

 

إن المأزق السياسي الحالي متعدد الرؤوس، لكن النظام السياسي الذي تشكل بعد 2003 هو الرأس البارز فيه: منهجه غير التشاوري، تحطيمه المنظم للدولة، كتمانه للحقائق، شكله الخارجي الذي يبدو تآلفيا بينما حقيقته الداخلية تنافسية وتآمرية، انعدام أي مبدأ سياسي - فكري ناظم، اختزاليته المجحفة، انقساميته الطائفية، الهوة ما بين سلطته التنفيذية المدنية وبين سلطته التفيذية الأمنية والعسكرية. هذا النظام المدار من قبل الهواة، ضيّع الشيعة قبل السنة، إذ حولهم الى وقود. وبقدر ما منحهم حرية ممارسة طقوسهم الدينية سرق قوتهم اليومي.

 

لقد اعتقدت دائما أن سقوط الدولة هيأ مناخا لصعود القوى الطائفية والعشائرية والمناطقية، سواء في مناطق شيعية او سنية. الدولة آلة كبيرة، ذاكرة متشعبة، مرجع سياسي، مركز الضبط الاجتماعي، وباختفائها تظهر الكوارث والفوضى وسرسرية الشوارع. [حزب النهضة التونسي الاسلامي أدرك مؤخرا أن المنافسة على السلطة يجب الا تضعف الدولة ولا تقضي على استقلاليتها]. في العراق لم تعجز الاحزاب السياسية التي قادت الطوائف العراقية عن اعادة بناء الدولة فقط، بل إنها، بسبب حماقتها وأحقادها، أبقت الدولة ضعيفة ايضا لكي تمارس النهب، بالضد من عملية اعادة البناء. اشترك في هذا الجميع، الشيعة والسنة والكرد. إن اللصوصية المدعومة من السياسة جزء من مشروع 2003 القاضي بتقاسم الأسلاب، وقد جرى التغييم عليها في لعبة سميولوجية، فهي تسمى العملية السياسية في سطحها الخارجي، وتسمى المحاصصة في تقاسم المناصب في ادارة الدولة، وهي نفسها المصالحة الوطنية التي ما صالحت غير الأفاقين. إنها لصوصية خرجت كذلك من مداخن الحرب، من سنوات الحصار الطويلة، من ترييف المدن وحطامها، من تفكك المنظومة القيمية للمجتمع، وضياع الفكر الوطني بالخصومات السياسية والفكرية التافهة. إن الانشقاق الوطني الذي سببته الانقلابات العسكرية، والفترة الفاشية الطويلة، جعلت من المجتمع العراقي ممزقا، بلا ولاء وطني حقيقي.

 

لقد وصفت العراق مرة بأنه بات منطقة ضعن، المنشآت تقام فيه على عجل، لترفع على عجل، وتستنزف فيه الافكار والحالات والموارد على عجل.

 

بسبب غياب مرجعية الدولة المستقلة عن السياسة، لم يعد الدستور، على علاّته، كافيا للاحتكام به في النزاعات، وبالعكس أضاف نزاعات جديدة بسبب طريقة المالكي في استخدامه وتفسيره، كما أن ادوات الدستور المادية التنفيذية باتت فاسدة، وهكذا بتنا تماما على وصف السيد المسيح: "إذا فسد الملح فبمن نملح؟".

 

إن أخطر ما في المأزق الطائفي العراقي هو أن الطائفية لم تعد تعمل بهداية الرموز الدينية وحدها بل بهداية المال ايضا، بل المال بوجه خاص. لقد بات المال السياسي يتحكم بالقوى الاجتماعية وتستخدمه كل الطوائف. إن الدواعش هم نتاج تلاقي الفكر الديني السلفي الفاشي بالرأسمال ومشروع تفكيك المنطقة العربية. الطائفية كلها رأسمال تاريخيرمزي ومالي - لتنشيط الفشل السياسي والاقتصادي والثقافي لمنطقة يجرى تفكيكها. في هذا السياق تضيّع الطائفتان السنية والشيعية مستقبل وجودهما التاريخي معا لمصلحة قوى اجنبية، ويعرضان استقلالنا الوطني للخطر، ويبددان ميراثنا العربي والاسلامي العظيم.

 

الآن بدأت اسعار النفط بالانخفاض، سواء بسبب دورة اقتصادية او الوفرة أو بسبب غامض، وسيحتاج الجميع الى المال، ولا ندري مع شحته إن كانت الرمزية الطائفية المستشاطة ستقلل من سعارها أو تزيده. إننا لا نستطيع التحكم بالقوانين الاقتصادية ولا بفاقدي الروح، مثلما لا نستطيع التحكم بالشيطان!.