يحتاج العراق الى اعادة التاهيل السياسي

مما نعرفه ان التاهيل السياسي في اي مجتمع هو الجزء الهام للتاهيل الاجتماعي و ما تتبنى عليه الافراد منذ نعومة اظافرهم . منذ تاسيس الدولة العراقية من قبل الاستعمار البريطاني رغما عن ارادة و اماني مكوناته، فان الوضع الاجتماعي يسير على حال لا يمكن ان نقر بانه لدينا شعب متكامل الاوصاف كما اقرهذا الراي و الموقف العديدين شفويا من قبل و من خلال تقيمهم للمجتمع بشكل عام دون اساس علمي و منهم نوري السعيد، كان رايهم الصريح بما لمسوا كانما عليه العراق، نتيجة لتلاقيهم و مواجهتهم الظروف السياسية الاجتماعية على الارض الواقع، و استنتجوا ما هو المجتمع العراقي و ما طبيعته و ما يستند عليه من عدم التماسك و غياب الانتماء الوطني و كثرة الانتماءات الاخرى الحقيقية لدى المكونات المختلفة عرقيا و دينيا و مذهبيا .
اليوم و بعد التغيير الكبير الذي حصل بعد سقوط الدكتاتورية، اننا نجد ان المجتمع قد ازيحت عنه الصبغة السطحية الخفيفة التي تمظهر بها و اعاد تركيبته الى معدنه الاصيل و هو الانتماء الاجتماعي السياسي الثقافي، و عاد الى اصالته و اثبت ذلك الحقيقة ما ذهب اليه المحللون و المقيمون و السياسيون من قبل حول خصائص و طبيعة و سمات المجتمع العراقي، و ان اردنا ان نكوٌن و نبني اساسا صحيحا لبناء كيان على ما يمكن ان يصبح دولة بمعنى الكلمة، لابد ان نعترف بالحقيقة و نعمل وفقها، اي لو فكرنا باعادة التاهيل السياسي المعتمد على التاهيل الاجتماعي الذي هو اصلا نابع منه و جزء منه، لابد ان نصر على تبلور بعض التوجهات الصحيحة لاطفالنا قبل الشباب و نعيد النظر فيما تشدقنا به نظريا في كوننا اننا نعيش في بلد متماسك موحدا،لم نعلم اننا كنا فقط مستندين على الخلفية الايديولوجية الخيالية سواء كانت قومية تعصبية او سياسية ، كانت تدعيها مجموعة من النخبة فقط ،و هي في واد و المجتمع بواد اخر من كافة النواحي .
التاهيل السياسي يجب ان يكون قويا، و في اي وقت كان، لابد ان يحسب للمشاعر و التوجهات و الانتماءات الحقيقية، و الهوية الطبيعية للفرد و ما يحسه من المعتقدات و المكانة الاجتماعية، و اكثر ماموجود في العراق و لاي مكون كان هوانتماءه القبلي و العشائري و الديني و العرقي و المذهبي، و مدى احساس الفرد بحقوقه و واجباته التي لا يمكن ان نحس بانه يقر بما هو عليه من قبل دولة موحدة مثل العراق لحد الان، اي مهما تبجحنا و قلنا ما هو ليس بحقيقة لا يمكن ان يكون هناك الا عراق كما اسسته بريطاينا لاغراض سياسية مصلحية و ليس كالدول الاخرى التي انبنت وفق الخواص و النقاط المشتركة بين ابناء شعبها، و كل همٌ الفرد العراقي منذ تاسيسه لحد اليوم هو كيف يكون وضعه الفردي و العائلي و العشائري و القومي و الديني و المذهبي و ليس الوطني ابدا، و كل ما سمعناه من التظاهر بالوطنية كان دوما من قبل المذهب او المجموعة المتمسكة بالسلطة فقط و الباقي في حقيقة الامر كان على معدنه العرقي و المذهبي، و لم يكن ادعاءات هؤلاء السلطويين في النخاع باسم الوطن الا دفاعا عن السلطة و ليس الوطن، و الدليل على ذلك، كما مرينا به عند تغيير النظام و ابتعاد المذهب الحاكم و مجيء الاخر كيف ضُرب الوطن و ما فيه و الادعاءات الوطنية و الحرص على وحدته عرض الحائط و انقلب السحر على الساحر نفسه و ضرب عمق الدولة التي ادعاها من قبل و يضرب اساسها بكلما اوتي له من القوة و الامكانية، و لم نلمس الا الحرب و الاحتكات الداخلية و المعارضة الا من مَن كان يدعي الوطنية من قبل، ليس لكون الوطن اُحتل، بل لان السلطة انفلتت من يديه .
طالما تغيرت الذات السياسية على الدوام و هو ملتحق بالذات الاجتماعية وكذلك طالما كانت الانتقالات و القفزات الاجتماعية و السياسية مستمرة، فان التاهيل السياسي يحتاج للمتابعة و المسيرة والمواكبة لبناء الدولة .
ثمة امور لابد منها لو فكرنا ان نثبت اساس بناء اية دولة، و نحن نتكلم عن العراق و خصوصياته؛ لابد ان نعتبر للانتماءات المختلفة اولا و التي هي نابعة من التفكير و التراث و الموروثات و المعايشة المستمرة لمجموعة من القيم التي زرعت و لاتزال في صلب الفرد منذ ولادته و معيشته ضمن عائلة منتمية الى احدى التوجهات، فلابد ان نضع الاركان امام اعيننا، لا يمكن ان نتكلم عن العراق الواحد الموحد و الدولة ذات السيادة الاتحادية و نتعامل معه كاننا ننتمي الى العراق وليس لاي مفهوم اخر قبله، و حتى الدول المتقدمة و ما موجود من الفرق بيننا و بينها من كافة النواحي و هي بنيت بعض منها لظروف مشابهة للعراق، فاليوم و بعد الخلط و التمازج وما لديهم من الحقوق التي يتمتعون بها كاملة و دون تمييز فانهم لايزالون على انتماءهم الاصغر و يوالون لمفهومهم الاصغر، و كما نشاهده في ايرلندا و ويلز و كتلونيا و اسكتلندا و الباسك و غيرها من الاقاليم التي تعيش في ظروف ليست باقل من ابناء الدول الاصلية التي رضخوا لها او وضعوا تحت كنفها، فما بالك في العراق المعلوم عنه من التناقضات و الغبن لمجموعة لحساب اخرى فيه .
التاهيل السياسي يمكن ان يُبث بشكل مباشر و تعليمي ان كنا نسير على الحقائق الراسخة و ايماننا الحقيقي بما نقول و نفعل دون اي ضغط او فرض فوقي كما يحصل لنا منذ اكثر من ثمانين عام، و لابد من ايصال المعلومات بشكل صحيح و من ثم بناء الانتماء بشكل عفوي و طوعي دون الزام كما تبنى و يؤمن اي واحد منا بالقيم، و من ثم المشاعر تجاه البلد و السياسة الموجودة، و يكون ذلك من خلال العملية السياسة و التعليمية وما يكتنف المجتمع من التناقضات و التفاعلات مع ما فيه من العادات و التقاليد و المسيرة الاجتماعية تتمخض عنه الانتماءات الصحيحة .
لا يمكن التاهيل السياسي الصحيح ذلك خلال جيل واحد، و لكن الاهم و البداية الصحيحة هو البناء و الاساس الصحيح، و يمكن ان ينتقل ما يكسبه الجيل الى الاخر، و به تترسخ الثقافة السياسية و التاهيل السياسي في اذهان الاجيال المتعاقبة و يُبنى البلد على شكل ما او ينقسم بما فيه الخير و يزداد الانتماء لكل جزء على اساسه الصحيح .
التاهيل السياسي يكون وفق المعدن الصحيح و سيكون ثقافة الناتجة عنه اصيلة، و ان نقسمت بلدما الى عشرين قسما سيكون خيرا لابناءه من بلد واحد مزيف في كيانه و علاقاته و ادعاءاته، فالاهم هو الحياة الحرة السعيدة و الانسانية في الفكر و المعيشة وليس الخيال و الايديولوجيا المجردة التي اعتمدتها مجتمعاتنا دون ان نفيد به اي فرد في بلدنا، بل كل ما حصلنا منه هو التعاسة و القتل و التشريد و الحروب . بهذه الافكار و الادعاءات الطوباوية لم ندع حياة الناس ان تتقدم بعفوية و طبيعية نحو الامام، بل وضعنا عراقيل فكرية و ايديولوجية امام التطور الطبيعي للمجتمع، و لم نتقدم خطوة واحدة في تعليم الثقافة السياسية للمجتمع و به خلطنا بينها و بين الثقافة الاجتماعية و قطعنا الطريق عن السير نحو المجرى الصحيح .
اذا التاهيل الصحيح هو نشر الثقافة الصحيحة و بناء السياسة و المجتمع على اركان معادنها الاصيلة غير القابلة للوي و الانبعاج و الكسر بسهولة . اذاً اننا نحتاج لتاهيل سياسي ضمن التاهيل الاجتماعي مما ينتج تاهيلا ثقافيا صحيحا .