التـصـفيـق بين الـماضي والـحاضر.. قصور الخلفاء تعبّر عن القوة

 

التصفيق فعل أنساني عفوي أحياناً ومـُـبـَرر أحياناً .. ومُـنافق أحياناً كثيرة …! مـَن منـّا لم يـُصفـّق في حياته .. في طفولتهِ ، في شبابهِ ، في كــبره .. صفـّـقـنا للنجاح ، للفرح ، لأغنية ، لعرض مسرحـي ، للرمز الوطنـي ، للرمز الديني ، للقائد السياسي ، صفقـنا للقطط كي نـُبعدها ، لطرد الخوف أحياناً ، وللتنبيه أحياناً أخرى .. أصبح التصفيق جزءاً من ثقافتنا النقيـّة والملوّثــة معاً .. في السيرك السياسي تحوّل التصفيق الى نوع من الـنفاق الواعي و غير الواعـي ..! فنحنُ نستبق ما سيقوله أو ما سيفعلهُ الحاكم أو المسؤول … نـُصفـّق له حين يدخل القاعــة مثلاً .. وحين يجلس .. وحين ينهض .. وأن قال أتفه الكلمات نـُصفق .. وأن عـَـطـَس نـُصفـّق ..

 

 وأن وَعـَـدنا أنهُ (سـَـ ) يفتتح ورشــة نجارة أو مرافق عامــُة حديثة نصفق لهُ..

 

وأن سرَق أيامنا وأحلامنا نصفق له .. وأن ذبحَـنا من الوريد للوريد نصفق له .. نــُصفق باختيارنا ونصفق مـُرغمين خوفاً أو نفاقاً لا فرق … والغريب أننا نــُـصفـّق على الوعود والكلام .. أكـثر مما نـُصـفّـق على الأنجاز …! ثم بعد فترة ننسـى أن نتسائل هل الوعود والكلام تحققت أم لا ..!

 

قد يستحق مسؤول ما التصفيق بعد أن يــُحقق لنا أنجازاً كبيراً أو مشروعاً عظيماً .. ولكن ليس قبل ذلك …!

 

يـُعد التصفيق سلوكاً قديما يعود إلى فترات زمنية موغلة في الماضي، حيث تدل الحفريات والبحوث الآثارية على تلمّس آثار ودلائل وجوده في تلك الفترات من خلال النقوش الفرعونية والتي تشير إلى المصريين وهم يمارسون عملية التصفيق بالترافق مع طقوس احتفالية كالغناء والرقص وكانت مهمتهُ في حينها ضبط أيقاع الغناء والرقص ، من جانب آخــر أشارت الدراسات إلى أن اليونان من أقدم شعوب الأرض التي مارست عادة التصفيق لغرض الأستحسان والتأييد والتشجيع .. وفي حينها شاع المُصفـّـق الذي يـُصفق بأجر ( المأجور) أي الذي يصفق بمقابل مالي، وكان هذا يحصل أثناء عرض المسرحيات على مسرح ديونيسيوس وخصوصاً في المسابقات حيث يجري تأجير مجاميع من الناس تـُمارس التصفيق للمسرحيات أمام لجان التحكيم التي تقوم بتقييم المسابقات المسرحية.

 

وتذكر المصادر التاريخية أن نيرون طاغية روما كان مولعاً بالتصفيق .. وهو أول من أسس مدرسة للتصفيق في التاريخ ..! وأنه كان يأمــر حوالي خمسة آلاف جندي وفارس من أفراد الجيش بحضور الحفلات الموسيقية التي كان يـُغنـّي فيها وهو يعزف على القيثارة ، ليـُصفـّقوا له بعد أن ينتهي من الغناء والعزف .. ثم تـقول الدراسات أن التصفيق قد أنتقل من المجتمع الفرعوني و اليوناني الى المجتمعات العبـرانـيـّة ، وأن أختلفت دلالـتـُه و غاياته .. !

 

وفي فترة مـُبكــّرة من تاريخ المسيحية ، أعتاد المسيحيون التصفيق للوعّـاظ الشعبيين أستحساناً لبلاغتهم أو أدائـهم ، وغالباً ما كان التصفيق يحدث في الكنائس ضمن سياقيـّن رئيسيين : التصفيق الأيقاعــي أثناء أناشيد الزواج و حفلات التعــميد .. والتصفيق الدال على التقدير والأعجاب كما هو الحال عند تكريم البعض أو أثــر قول حـَســِن أثناء الوعظ … و عليهِ كان التصفيق في الكنائس القديمــة يؤدّي مهمتين : الأولـى هي ضبط الأيقاع وهي أمتداد لوظيفته عند الفراعــنة .. والثانية أظهار الأستحسان وهي أمتداد لوظيفته عند اليونانيين.

 

وقد عرف العرب في عصر ما قبل الأسلام التصفيق بوصفه ممارســة شعائريـّة تؤدّى أمام الحرم المَـكـّي .. كذلك أستـُخدِم التصفيق في صدر الأسلام كأداة للتشويش على المسلمين الأوائل في بداية دعوتهم .. فقد كان بعض القريشيين مـمن عارضوا دعوة النبي محمد ( ص ) ، كانوا يصفـّـقون كلّما قام ليدعو الناس الى الدين الجديد حتى لا يستطيع أحد سماعـه أو التأثــّر به .

 

وبالعموم فقد أرتبط التصفيق في بادئ الأمر بمشاعر الفرح الأنساني …! أما الرؤية الحديثة لهذا الفعل الأنساني فتعتبر التصفيق ذا طابع عرفي تحوّل إلى مهارة تواصلية، يـُكتسب جزءاً منها من خلال الملاحظة والمحاكاة والتقليد، ويكتسب جزء آخر بواسطة التوجيه والإرشاد، ويتم صقلها بواسطة الخبرة والممارسة ، وكأي مهارة تواصلية فقد يبرَع فيها البعض فيعرفون أنسب وقت للتصفيق وقد يفشل البعض الآخــر في أختيار التوقيت المناسب ..! مثلاً في الحفلات الغنائيـّة تجد جمهور يـُـصفق للعازف أو المـُغنـّي خلال الأداء وبشكل عشوائي أو تهريجي .. بينما تجد جمهوراً آخر يضـّل صامتاً لحين أنتهاء الفنان من أداء فقرتهِ ثم يبدأ التصفيق.

 

اندماج النفس

 

تحوّل التصفيق من أنفعال وجدانـي وأندماج النفس مع الجسد في حركــة سيكولوجية تعبيرية الى دلالة على عادة اجتماعية وسياسية قد تتميّز بها شعوب دون أخرى، بمعنى أستخدام التصفيق لغايات مختلفة … فمع أنه ظل وسيظل بالطبع وسيلة لتحية الناجحين والمـُبدعين والتعبير لهم عن التقدير ، إلا أن أشكالاً جديدة من التصفيق ظـهرَت تـُعطي معاني مختلفة نذكر من بينها ثلاثة :

 

النوع الأوّل : أن يستخدم للتعبير عن الرفض وليس الرِضى وذلك عن طريق إبطاء الإيقاع وزيادة الفاصل الزمني بين كل تصفيقة وأخرى ، وهو تصرف يشبه في رمزيته ما يلجأ إليه بعض الغاضبين عندما يضربون بكف يدهم على رُكـَبهم إظهاراً لما يعتريهم من غضب .. وقد تعرّض لهذا التصفيق المـُـتباطئ رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير عندما كان يلقي خطاباً أمام المعهد البريطاني للمرأة في يونيو 2000، حيث قابلت النساء حديثه عن الرعاية الصحية باستخفاف فصفـّقن بتباطؤ لمدة لم تكن قصيرة ما تسبب له في حرج دفعه إلى التوقف لفترة عن الكلام.

 

والنوع الثاني : هو + تصفيق الحـِداد ؛ الذي بدأ يحل محل دقيقة الصمت عند تأبين فقيد انتقل إلى الدار الآخرة. وقد أخذ هذا التقليد يشق طريقه إلى البرلمان البريطاني بعد أن جرى التوسع في تطبيقه في الملاعب الرياضية تخليداً لذكرى رياضيين راحلين. ومنطق هذا الشكل الجديد من التصفيق أن تحية الراحلين تكون أبلغ أثراً عندما يصفق لهم الناس بحماسة بدلاً من أن يصمتوا ليسرح كل منهم في عالمه الخاص بعيداً جو المأتـم ، وقد شاهدنا مؤخـّراً هذا النوع من التصفيق أثناء تشييع الرئيس الفنزويلي الراحل تشافيز.

 

أما النوع الثالث : فتعرفه الساحات السياسية بصفة خاصة وهو التصفيق الحار standing ovationالذي يمارسه أعضاء البرلمانات خصوصاً من وضع الوقوف ولأطول مدة ممكنة، حيث يهب أعضاء الحزب أو التكتل السياسي الذي منه رئيس الدولة أو الوزارة لاستقباله .. ثم يـُـقاطعوا خطابه بتصفيق حماسي مـُبالغ أحياناً في طوله لتحريك مشاعر الرأي العام أو لتضخيم الهالة من حول الزعيم أو القائد …!

 

وبخلاف التصفيق التقليدي المـُعبـّرعن التقدير والأعجاب المُـستـَحـَق ، فإن هذه الأنواع الثلاثة قد لا تكون مقبولة في كل ثقافة، أو قد يكون لدى كل ثقافة وسائل أخرى غير التصفيق تعبر بها عن هذه المعاني .

 

يـَـعتـبر الباحث المصري الدكتور عماد عبد اللطيف : ( أن التصفيق ممارسة ثقافية .. وبناءاً عليه تختلف طريقة أستخدامــه و وظائفه و كيفيـّة تأويله ، من ثقافة الى أخرى ومن مجتمع الى مجتمع .. وبالرغم من ذلك فقد أدّى كون التصفيق شعيرة تواصليـّة في الكثير من أشكال التواصل الجماهيري الى تحــوّلهِ الى عـُرف مسّتقر حتى وأن أختلفت المجتمعات .. فمثلاً : العروض الفنيـّة الحـيـّة تتضمـّن ما يكاد أن يكون بروتوكول للتصفيق ..! أذ ما أن يقف الفنان موسيقياً كان أم مسرحياً أم مـُغـنياً أم شاعراً بين يدي الجمهور حتى يبدأوا بالتصفيق تحيـّة له .. وقد يتخلل ذلك تصفيق آخـر لأظـهار الأعجاب .. وتصفيق ثالث لأعلان الرغبة بالأعادة …الخ وفي نهاية العرض يأتي تصفيق الوداع ).

 

قصور الخلفاء

 

شاع التصفيق في قصور الخلفاء والملوك والسلاطين والولاة والحـُكام ، وكان تعبيرا عن قوتهم ومكانتهم وجبروتهم ، فالذي يجلس على عرش الحكم عندما يـُـصفـّـق فهذا يعطي إشارة رمزية لفعل قادم قد يكون مألوفاً وقد يكون مـُفاجئاً .. مثلاً عندما يـُصفـّـق السلطان مرّتين قد تظهر راقصة تتمايل بغنج يسرق قلوب الحضور .. أو قد تنكشف فجأة موائد كبيرة وطويلة تشتمل على كل ما هو لذيذ وطيب من الطعام ، وقد يبرز سيف بتـّار يقطع رقاب بعضهم ..!

 

في ثقافتنا تحوّل التصفيق إلى ظاهرة قهرية بامتياز .. فحيثما وجدت دكتاتورية أو استبداد تجد تصفيقا حادا أو صاخباً ، وهذا الشكل من التصفيق يأخذ طابعا قهريا خنوعيا استسلاميا حتى في جانبه الانتهازي الوصولي لانتفاع مكاسب وقتية من الطاغية أو من المُستبد أو الحاكم ، والذي يـُدرك أسباب هذه الانتهازية ، لكنه يـُحبذها ويؤيدها لأنها تخدم نزعته المريضة .. وتخدم كذلك استمراره في الحكم والسيطرة والنفوذ .. ولأرسال رسائل للأخــرين في الداخل والخارج عن مــدى شعبيته وتأييد الناس له ..!

 

وتحوّل هذا السلوك بمرور الزمن الى فعل لا أرادي نقوم به آلياً بمجرّد مرور الحاكم أو المسؤول أمامنا بموكبه أو بشخصهِ .. حتى وأن كنـّا نشتـُمـُه بداخلنا ..! من غير أن نـُدرك أن التصفيق لـهُ يــُعطيه رسالة بأننا راضون و مُستمتعون ربما باستبداده و أذلالـهِ لنا ، وأن ذلك سيدفعهُ للأستمرار وربما للتمادي في ظـُلمــهِ واستهانتهِ للناس …!

 

و أخيرا نقول عندما يكـُـفّ الشعب عن التصفيق للحاكم أو المسؤول بلا مـُبرر .. سيضطـَر هذا الحاكم أو المسؤول لاحترام شعبـِه … !

 

وعندما يتوقـّف الشعب عن التصفيق ألاّ للأعمال والمنجزات الكبيرة … سيضـطـّر الحاكم أو المسؤول لأنجاز الأعمال الكبيرة …!

 

أمـّا عندما ننظـر للحاكم أو المسؤول على أنـّـهُ موظف خدمــة عامـّـة وحسب ، وليس فرض ألــهي مـُقدّس أو ملاك هـَـبط علينا من السماء ليقودنا الى الفردوس … عندها لن يحتاج الشعب للتصفيق أصــلاً ..!