في انقلاب الولاءات

في غضون عقد من السنين، وفي غياب معايير الخدمة والشأن العام واضطراب الضمير السياسي تكونت بطانة من انصاف السياسيين والكتاب والمثقفين تتاجر بالولاءات بحسب اتجاه الرياح والنفوذ والسلطة، وصارت لديها مجسات لا تخطئ عن الاقدار والحظوظ والصفقات، فكانت تتسابق للوصول الى “الوليّ” حتى قبل ان يصعد السلم الى الموقع النافذ.
في التاريخ القديم (لنبتعد عما يجري الآن) ثمة الكثير من الوقائع عن تقلب الولاءات بحسب الظروف وعلى ايقاع انقلاب الاحوال، وبخاصة، في بيئات وحقب شهدت اضطرابات وحروبا، فقد اورد ابو العباس المبرد في كتابه “الكامل في الادب واللغة” حكاية عن مأزق الولاء في خلال حروب الدولة الاموية مع المنشقين عليها، تفيد ان المهلب بن ابي صفرة كان يقود جيش مصعب بن الزبير ضد الخوارج، فحدث مقتل مصعب لصالح عبدالملك بن مروان، لكن الخوارج علموا بالوفاة قبل اصحاب المهلب، فالتقى الطرفان على مشارف ساحة الوغى، فنادى الخوارج خصومهم: ما تقولون في اميركم الزبير؟ فردوا بالقول انه “إمام هدى” وسألوهم: وما تقولون بعبدالملك (عدوّه)؟ فردوا قائلين انه “ضال مضلل”.ثم مرّ يومان، وبلغ مقتل مصعب اصحاب المهلب واستتباب الامر الى عبدالملك، فناداهم الخوارج مرة اخرى: ما تقولون في مصعب؟ “فامسكوا عن الجواب” قالوا: فما تقولون عن عبدالملك؟ فردوا انه “إمام هدى” فردّ عليهم المنادون: “يا عبيد الدنيا، بالامس ضال ومضلل، واليوم إمام هدى؟”.
الشاعر الشامي الاصل ابو عمرو كلثوم العتابي كان حائرا في تقرير ولائه بين حكام وولاة لا يعرفون العدالة، ولا يزاولون الحق، وكان في ضيق وفي حاجة، ونقل العلوي في مستطرفه الجديد انه قيل للعتابي يوما: لمَ لا تقصد السلطان فتخدمه، فقال “لأني اراه يعطي واحدا لغير حسنة، ولا يد، ويقتل الآخر بلا سيئة ولا ذنب، ولست أدري اي الرجلين انا؟”.
اما ابن طباطبا، محمد بن ابراهيم، فقد مل الولاء الى المأمون، وفيما كان يقلب الامر شاهد وهو يسير في احد طرق الكوفة عجوزا تتبع احمال رطب فتلتقط ما يسقط منها فتجمعه في كساء رث، فسألها عما تصنع بهذا الرطب المتسخ في الرداء البالي، فقالت: اني امرأة ارملة ولي بنات صغيرات، فانا اتتبع هذا (الرطب) من الطريق واتقوته انا وعيالي، فبكى ابن طباطبا بكاء شديدا، وقال “انتِ والله واشباهك تخرجوني غدا (على الولاء) حتى يسفك دمي”.

وثمة افضل تلخيص لمأزق الولاءات ما جاء على لسان شاعر قديم بقوله:

ويوم سمين ويوم هزيــل
ويوم امرّ من الحنظلة

ويوم ابيت جليس الملوك
ويوم انام على مزبلــة.