يؤسفني أن أقول لكم

الحرية .. كلمة

لا تحتاج أن تقرأ الكتاب كاملاً من الغلاف إلى الغلاف حتى تفهم ماذا يريد أن يقول الكاتب . ليس الكتاب دائماً أصدق جليس . لا تحتاج أن تصحب إنساناً عقداً من السنين حتى تعرف معدنه . أيام العمر تجري سراعاً . العمر لحظة . يكفيك لتفهم الكاتب والكتاب أن تقرأ الصفحة الأولى من المقدمة . كما يكفيك لتعرف معدن هذا الإنسان وعجينته وطينته وسجاياه في ساعة زمن .

يحدثني صديق لي باستغراب وذهول عن أشخاص كان يضفي لهم المهابة والاحترام كلما رآهم على شاشات التلفاز ، ثم صادف أنه التقاهم فاكتشف ضحالتهم الأخلاقية والأدبية والفكرية ، وكم هم جهلاء ومرضى وسطحيّون .

قلت : من الصعب أن تجد إنساناً لا تجري عليه رتوشاً ، أو شطباً ، أو عمليات تجميل . الفيلسوف الفرنسي فولتير كان يقول : ( تستطيع اكتشاف إنسان من نوع أسئلته لا من إجاباته فقط ) .. والشاعر الانكليزي العظيم شكسبير هو القائل : ( لا يوجد ملك أمام حاشيته ) بمعنى إن الناس جميعاً عراة مفضوحون حين ينظرون إلى أنفسهم أمام المرآة ويراهم الناس .
هناك قصة قديمة تُروى عن فيلسوف إغريقي . يُقال : إنه أمسك في يده مصباحاً من زيت وطاف به شوارع أثينا . فهرع نحوه الناس يسألونه في حيرة : هل ضاع منك شيء . قال : إنني أبحث عن إنسان . إنه يبحث في الإنسان عن الجمال والنقاء والبراءة والدهشة والانبهار .
في مفارقة محزنة كنت يوماً من شهودها . مات الشاعر البديع صفاء الحيدري ثم مات بعده كلبه ( بلاكي ) بيوم واحد فقط . كان صفاء وبلاكي يأكلان من ماعون واحد ، وينامان على سرير واحد ، ويعيشان في بيت واحد . هذا يعني إن الكلب أكثر وفاء ونبلاً من الإنسان .
في هذا العالم الافتراضي الذي يسمّونه الفيس بوك ، مثلاً ، تستطيع اكتشاف مفتاح أيّ إنسان ، وأن تعرف طبيعته وتدخل في أعماقه دون استئذان ، دون حاجتك اللجوء إلى قارئ فنجان .
تستطيع أن تكتشف السطحي من الناس والعدواني والأمّي والمبتذل . الطائفي والوطني . الاستعراضي والنرجسي . الارتزاقي والانكشاري والانتهازي والانبطاحي . الحضاري والفوضوي . القدّيس والشيطان .
هذا العالم الذي اختصر لك جهات الدنيا الأربع ووضعها بين يديك في صفحة صغيرة على شاشة حاسوب ، مزّق الأقنعة التي كانت تغطي الوجوه . لتكتشف حماقات شيوخ متصابين ، ونفايات كتّاب طائفيين ، ودجالين تحولوا إلى وعاظين . ستجد من لم يقرأ في حياته كتاباً يضع في صورته مجلدات من الكتب خلف رأسه .
لكن الطبيعة البشرية تبقى كما هي لم تتغيّر مصداق قوله سبحانه : ( وما أبرّئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ) . الشرّ في الإنسان هو الأصل والخير هو الاستثناء . كلّ شيء يتطور إلا هذا الإنسان . نفس الوجوه . نفس الملامح . نفس البصمات . ما زال يحتفظ بصفاته الأولى . ما زالت نسخة هابيل وقابيل تتكرّر في حياتنا كلّ حين . وما زال ( يوسف ) أمام عيوننا مُلقى في البئر .
يؤسفني أن أقول لكم : إنني ما زلت أبحث عن إنسان .