انظر خلفك دون غضب - 1 -


هل تعيشُ مصرُ أعتمَ عصور ظلامها وأتعسَ أزمنة رجعيتها، أم تُراها على أبواب "نهضة" حقيقية، ولمعة إشراق صادق؟ الحقُّ أن أمام مصرَ خطوتين طويلتين شاقّتين للوصول إلى أولى عتبات التنوير. أولا: الخروج من كهف الظلام الذي تسكنه منذ نصف قرن، وثانيًا: ولوج باب التقدم، وهو بعيد، "صعبٌ طويلٌ سُلَّمُه، إذا ارتقى فيه مَن لا يعلمُه". 
ثمة ارتباطٌ وثيق، أثبته التاريخ، بين أن يكونَ الحاكمُ مُختارًا بإرادة الشعب الحرة، وبين حدوث نهضة في هذا البلد أو ذلك. ويشهدُ التاريخُ أنْ حدوث نهضة مصر الكبرى حدثت حين اختار المصريون "محمد علي" الكبير حاكمًا بإرادتهم الصافية، ما اضطر السلطانَ سليم الثالث إلى إعلانه واليًا على مصر والسودان، بعد فترة الفراغ السياسي التي عاشتها مصرُ أربع سنوات بعد إخفاق الحملة الفرنسية على مصر العام 1801. وما اختيار المصريين له حاكمًا إلا بعدما أبثت نزاهته في الحكم وحبّه الحقيقي لمصرَ، ولفكره المستنير الاستشرافيّ الواعي بعد تحلل وانهيار الإمبراطورية العثمانية التي أخذت في تكريس الظلامية عقدًا بعد عقد. 
ونظلُّ نذكر "محمد علي" قائدًا رفيعَ الطراز وحاكمًا إصلاحيًّا، رغم فعلته، التي يدينها بعضُ التاريخُ وينصفها البعضُ الآخر، فيما عُرف بمذبحة المماليك الشهيرة قبيل خروج جيشه بقيادة ابنه طوسون لمطاردة الوهابيين في الجزيرة العربية. فما كان، فيما يبدو، من سبيل أمامه لبناء مجتمعه الجديد، إلا بالقضاء على المماليك والإقطاعيين من الجانب الداخليّ، وعلى الجانب الخارجيّ عمِل على التصدّي لمناوشات التدخل الاستعماريّ الأجنبيّ، فواجه القوّات البريطانية وهزمها عام 1807 قبل أن يستقرَّ له المُقام وتتزن حالُ البلاد ليلتفت، من ثم، إلى إصلاح المجتمع وتحديث الجيش على غرار ما توصّلت إليه جيوشُ البلدان الأوربية المتقدمة. آمن محمد علي باستنارته وحنكته السياسية أن لا سبيل لتحديث وبناء جيش قويّ ما لم يسعَ إلى تحديث الدولة بأكملها وما لم يكن الإصلاحُ شاملا، يرمي بسهمه في كافة شئون الحياة والدولة والإنسان. 
فأمور الدولة مثلها مثل الأواني المستطرقة في عالم الفيزياء، يصبُّ بعضُها في قالب بعض. ومن هنا كان إصلاحه يشتغل في كافة المجالات على التوازي، فنجح في بناء دولة عصرية على النسق الأوربيّ المتقدم. تأمل محمد علي كيف خرجت أوروبا من عثرتها بفضل العلم من جهة، ومن جهة أخرى بفضل النبش في التراث القديم الإغريقيّ والرومانيّ، للتفتيش عن نقاط النور في هذا المطمور الإرثي الغابر. تأمل الثوراتِ الفكريةَ والاجتماعيةَ والثقافيةَ والاقتصادية التي اجتاحت أوروبا فأدى تراكمُها، منذ القرن الخامس عشر، إلى الخروج بها من ظُلمة القرون الوسطى إلى نور العصور الحديثة في قفزة استنارية مدهشة؛ فأدرك بفكره المستنير أن لا سبيل إلى تحديث دولة إلا بحتمية التعليم. فجلب من فرنسا وإيطاليا كتيبةَ من الخبراء تُدرِّب كوادرَ مصريةً تستطيع فيما بعد أن تفكر وتبني اقتصادًا قويًّا حديثًا. وعلى الجانب الآخر أرسل بعثاتٍ لأوروبا لتتعلمَ النظرياتِ الاقتصاديةَ الحديثةَ القائمةَ على التصنيع والميكنة وإنشاء المؤسسات، وتنهل أيضًا من العلوم الحديثة من طبٍ وقانون وهندسة بناء السفن وأحدث أساليب الزراعة من شقِّ الترع وبناء القناطر وهلم جرا. فنجح في زراعة القطن ثم بيعه للإنجليز لتوفير السيولة النقدية التي ساعدته في إتمام مشاريعه الأخرى. كما عمل على تقوية حركات الترجمة للوقوف على ما يقوله "الآخر" الغربيّ وما يفكر فيه. فنجح في بناء أول جيش مصري عصري، وأول ترسانة بحرية في الإسكندرية، وشيّد أول مدرسة للطب والهندسة وأول مستشفى تعليمي بمصر. كما قضى على النظم السياسية الغابرة القائمة على الطابع الإلهي واستبدل بها نظامًا سياسيًّا جديدًا قائمًا على نزع الألوهية عن الحاكم باعتباره ظلَّ الله على الأرض، في محاولة منه لبناء مجتمع مدنيّ يفصل الدينَ عن الدولة ويكرّس الحقوق المدنية للمواطن ويعمل على إبراز سلطة الشعب بوصفها السلطةَ الأعلى في النظم السياسية الحديثة، تمامًا مثلما فعلت أوروبا مع بدايات القرن الثامن عشر في عصور نهضتها الكبرى، حيث تشكّلت النظرية الإنسانية التي تُعلي من قيمة الإنسان ودوره في بناء العالم.
فما أن أطلَّ القرنُ التاسع عشر على البشرية حتى بدأت تجليّات الاحتكاك بين العالم العربي والعالم الأوروبي في الظهور على يد صنّاع النهضة العربية الحديثة ممن أُتيح لهم الوقوف على أسباب النهضة الأوربية الزاهرة في لحظتها التنويرية الكبرى. آمن أولئك الروّاد بوحدة العقل البشري، وبالتالي وحدة معارفه وحضاراته. وآمنوا بحتمية انتشار تلك المعارف من شعب إلى شعب، سواء بالقوة الانتشارية الطبيعية، أو بالفعل الانتقالي الذي يجتهد الشعب من أجل تحقيقه. والهدف في كل الحالات هو نفع العالم وتطوّره وارتقاؤه على طول خط الزمن. 
والشاهدُ، تاريخيًّا أيضًا، أنه لابد من تزامن وجود "الحاكم" المستنير مع "المثقف" التنويري في لحظة تاريخية واحدة. ومثال ذلك في العصر العباسي: "المأمون" إلى جوار "ابن رشد”- وفي العصر الحديث: "محمد علي" إلى جوار "الطهطاوي" وأضرابه. 
وماذا عن العصر الراهن؟ هل لدينا المأمون أو محمد علي على كراسي الحكم؟ وهل لدينا ابن رشد أو الطهطاوي على كراسي المثقفين الطليعيين؟ أم باتت القلّة المثقفة المستنيرة تخشى على أرواحها من طعنة خنجر غادر، أو رصاصة مسدس طائش، مثلما طُعن نجيب محفوظ وغُدِر فرج فودة، ومثلما كُفِّر ناصر حامد أبو زيد وسيد القمني وإبراهيم عيسى وكاتبة السطور وسوانا قادمٌ على الطريق؟!
ماذا عن عنوان المقال؟ مقتبسٌ من مسرحية "انظرْ خلفَك في غضب" التي كتبها الإنجليزيّ چون أوزبورن عام 1956، وهو ينتقد التراث القديم ويدعو إلى التحديث. ولماذا أنظر أنا للخلف "دون" غضب، عكس ما فعل أوزوبورن؟ لأننا الآن بحاجة ماسّة إلى أرواح قوية تهزم الظلام كما فعل أجدادُنا محمد علي وابن رشد؛ وإلا: الهاوية الهاوية. 
وما الهاوية؟ أن نخفق، بعد ثورتي هائلتين، في تحقيق حلمنا الخياليّ، نحن مثقفي مصر، بأن نغدو، مجتمعًا مدنيًّا قائمًا على التشريع والقانون والديمقراطية والتعددية الفكرية والإثنية، بدلا من أن نغدو، كما نحن الآن، مجتمعًا يقوم على فتاوى الزوايا وجلسات المقاهي والفضائيات والفيس بوك والنقلية العمياء