لم يكن أحدٌ منّا هناك



في الحرب العراقية الأيرانية ، كان معنا نائب ضابط يحبّ مخالطة الجنود " الخريجين " .. ويقول عنهم انهم " مثقفّين " .. و " خوش يحجون " . 
وكلما اشتدّ القصف ، وانحشَرْنا في المواضع " الشقيّة " ، جاء وانحشَرَ معنا . وبينما نحنُ نرتجف من الخوف ، كان هو لايملّ من الحديث ، عن دور سعد بن أبي وقّاص ، و رستم فرّخزاد ، في نشوب " القادسية الأولى " و اندلاع " القادسية الثانية " ، التي كنّا نُطحَنُ في وسطها " وإحنه لاماكلين ولا شاربين " كما يقول .
وفي يوم أسود من تلك الأيام ، قُتل نائب ضابط ، بسيط ، وطيّب القلب ، في الستينيات من عمره ، كان على وشك الأحالة على التقاعد بعد ايام قليلة ( لأسباب صحيّة ) ، بعد ان شارك في كلّ حروب العراق حتّى لحظة مقتله .
وبينما كانت القذائفُ تتساقط حولنا من كل حدب وصوب ، كان أحد جنود " الموضع الشَقّي " يبكي على مصير نائب الضابط الذي قُتِل ، دون ان ينعم بشيء من السلام في آخر عمره .
وهنا انبرى صديقنا نائب الضابط لتأنيبه قائلاً بصوتٍ طغى على كل انواع المتفجرّات : 
شوف وليدي . في يوم من الأيام مرّ الرسول الكريم بأمرأةٍ تولولُ بصوتٍ عالٍ ، وتضربُ بقوّة على صدرها ، وتخمشُ خدّيها ، وتُهيلُ التراب على رأسها . فقال لها الرسول : مابك يا امرأة ؟ فقالت : لقد مات ابني يارسول الله . فقال لها : كم هو عمر ابنكِ يا امرأة ؟ فقالت : أكثر من مائة عام يارسول الله . فقال لها الرسول : " اصمتي يا ..... " !!؟؟
وهنا نسينا القصف والحرب ، و " نوع " القادسيّة .. ولم يبق فينا ماركسي " لينيني " أو ماركسي " ماوي " ، أو وجودي " سارتري " ، أو "سيّد " ابن سيّد ، أو بعثي ، أو " مُنتمٍ حتّى وأن لم ينتمي " أو " مستقّل " فكريّاً ، أو " سائر في خط الحزب والثورة " .. لم يوبّخ صديقنا نائب الضابط ، و يعترض على روايته للواقعة . لقد صرخنا في وجهه صرخة رجل واحد قائلين : استغفِر ربّك عمّي . لا يمكن لرسول الله ان يستخدم الفاظاً كهذه . انه رسول الله .
ودون خوف من الشظايا التي كانت تطِنُّ وتتطاير فوق رؤوسنا كنحلٍ هائج ، وقف نائب الضابط الذي كان إلى تلك اللحظة ( صديق الخريجين و نصير المثقّفين ) على قدميه ، ونصف جسده كان قد أصبح خارج " الموضع " ، وصاح بنا بغضب :
- لا أشو كَال .
من كان بأمكانه الردّ على محتوى " السرد " الذي اختاره نائب الضابط لتلك " الواقعة " ، في تلك اللحظات السوداء ؟
لا أحد .
فكُلّنا الآن ، هنا ، في هذه الحفرة السوداء .. نتقاسمُ موتنا وخبزنا الأسود مع الجميع .. ولم يكن أحدٌ منّا هناك .
نعم . لم يكن أحدٌ منّا هناك .
وكل حرب .. والرواةُ بخير