المشحوف وحصان دون كيشوت

كتب الأسباني ميغيل دي ثيرايانتس  روايته دون كيشوت  ليثبت لنفسه والذين تصيبهم خيبات الدهر ومفاجآته  أن صناعة البطولة الطافحة بخيال المجد ، ممكنة حتى لو مع حصان عليل ونحيف وسيف صدأ وترس مثقوب بسبب طعن لرماح حروب حقيقية وقديمة.

وعندما قرأت لأول مرة الرواية بشكلها المختصر ومعدة للأطفال في مكتبة المدرسة البسيطة في قريتنا ، أدركت أن فهم هكذا روايات خالدة من خلال مختصر لها يجعلها تسكن فيكَ بحواس غريبة حتى قبل أن تقرأها كاملة ، لهذا فالدون القشتالي أو الأشبيلي أو الغرناطي منحني الشعور أن ما ضاع في الأندلس هو ما يستطيع دون كيشوت أن يجلبه لنا من خلال فنتازيا بناء الانتصار القادم حتى حين نحارب طواحين هواء.

المعلمون قرأوا المختصر ، وشغاتي آخر من قرأه ، وحين سألته عن رأيه في ما قرأ وسمع من أراء نتحدث فيها بين فرص الاستراحة .

قال : لا استطيع التفكير جيدا بشيء لا يوجد مثله في قريتنا .

قلت : تعني ان المكان ليس اسبانياً ؟

قال : كلا ، حيث لا يوجد حصان في قريتنا ، والسيوف بديلها بندقيتي ( أم عبيه ) والترس شبيه له غطاء قدر طبخ عاشوراء الكبير ، ولا مقارنه بين الترس وغطاء يطبخ فيه نذر ابي الفضل العباس . ولكن السيف الصدأ موجودا ، ففي مخلفات جدتي نوعه سيف ابيها نحتفظ به ، وطالما اردت بيعه للرجل الأذربيجاني الذي يأتي بمناداته الموسمية ( من عنده خشاله للبيع ) ، لكن ولدي مكسيم يبكي لأنه يريد أن ليمارس فيه مع اولاد القرية تماثيل وتشابيه مقتل الحسين ع في العاشر من محرم . ولهذا أعتقد أن ما يأتي من اجله الاذربيجاني ( علي دنبه ) هو لشراء بضاعة تركها لنا دون كيخوته.

وبعيدا عن اعجابي بذكاء شغاتي وفطرته الحكيمة ، انتبهت الى أمر ما ، فأنا قلما وبصدفه واثناء مروري بالزورق بين قرى الطريق الواصل بين قريتنا وقضاء الجبايش أرى حصانا ، الجواميس فقط من اراها تمارس قيلولتها بكسل ، وحين يكون الوقت صباحا ، هناك ديكة حمر تنتصب فوق  سقوف الصرائف وتطلق موسيقاها لأيقاظ شغير الليل وهمسه  والدجاج معا.

لا أدري لماذا اصر شغاتي عليَ لجلب الرواية كاملة ، وكأنه يريد أن يكتشف الهاجس كاملا فيما اودعته عنده من رؤيا .

وقد انتبه الى شيء عندما قرأ الرواية كاملة وقال : بالإمكان هنا ان نحول المشحوف الى حصان ، ولكن ليس لدينا خيال لبطولة ضائعة ، الحياة البسيطة هنا لا تحتاج منك أن تبحث فيها عن شيء لتثبت أنكَ معيدي شهم ، عدا شيء واحد يسكنني وهذا لم تفكروا فيه انتم المعلمون عندما قرأتم دون كيخوته .

قلنا بصوت واحد : و ما هو ؟

قال :اعتقد أن جلجامش والذي اصر أن اسميه ( سليل المعدان ) هو دون كيشوت سومري ، فقد ذهب الى المستحيل بعصا وقدم حافية . وكان حصانه امنيته انه سيجد شيئا ، لكنه لم يجده.

أنا نفسي ذهلت من هذا الطرح ...

وقبل ان ينتظر ردود افعالنا ، ضحك وقال : ما دام سيف جدي موجودا سأحمله مع غطاء القِدر ، وسأفترض المشحوف حصانا واذهب الى عمق الاهوار لعلي اجد بطولة حقيقية واجلب لكم حوتا اصطدته ، بالرغم من أن الأهوار ليس فيها حيتان....!