غرباء في كل زمن

كل إنسان لا يجد سلامه خارج وطنه إلا إذا تحول هذا الوطن إلى سيّاف، وسجّان، وميدان حروب. وإذا كان داء الغربة يقصم الظهور، فإن أقسى أشكال الغربة أن تكون غريباً في وطنك. 
ومن أوهام الشعراء قول أبي فراس الحمداني في بيت الشعر الشهير: (بلادي وإن جارت عليّ عزيزة) هذا مجرد شعر. أما الحقيقة فأن تعيش في كهف بكرامة، خير لك من وطن تشعر فيه بالذل والاحتقار.
ومن الأسرار الغريبة التي استعصت في الفهم على العلماء، لماذا تهاجر الطيور من بلد إلى بلد، وتقطع آلاف الأميال من قارة إلى قارة؟!
وكان الشاعر عبد الوهاب البياتي من عشاق صوت مغنّ في الجزيرة العربية، أبو بكر سالم، وقال لي ونحن نبحث عن حدائق خفية في مدن يغطيها الصقيع: إنه لا يدرك عمق صوته إلا من عانى الغربة داخل بيته، أو داخل وطنه!
وكان البياتي نفسه يعاني غربة البيت والوطن والمنفى، ومات غريباً وحيداً، لتصدق نبوءته الشعرية: غرباء يا وطني نموت وقطارنا أبداً يفوت!
ودواوين الشعر العربي تزخر بقصائد اللوعة العاطفية، يحكي فيها الشعراء عذابات الغربة، وقصص الشوق والحنين. والشاعر محمد الفيتوري بكى بدموع عندما وقف ببغداد ينشد هذين البيتين:
الله.. يا كم تغرّبنا وكم بلغت
منّا الهمومُ كما لم يبلغ الكِبرُ!
وإنما تنقصُ الأعمارُ في وطن
يغتاله القهرُ، أو يغتاله الخطرُ
ثم ما الذي يتبقّى من حطام المنازل سوى أعمدة الدخان الصاعدة من تنانير الطين وقت الغروب. سوى زجاجة عطر فارغة. سوى نوح الحمام على هدم المآذن؟!
وبينما يهاجر العالم في عصر العولمة، والألفية الثالثة، وغزو الفضاء، من كوكب إلى كوكب. من الأرض إلى القمر وعطارد والمريخ، فإن العراقيين يهاجرون من بيوتهم ومدنهم وقراهم ليسكنوا في مخيمات، ومقابر، وكهوف. ينطبق على حالهم المثل القائل: (البيت بيت أبونا والأغراب طردونا). 
الغريب أن المكان الجميل الوحيد الذي يجد العراقيون سلوانهم في زيارته أيام الأعياد هو المقبرة، فيقبّلون الشواهد كأنهم يُقبّلون خدود الحبيب. وما أبلغ الجواهري في قوله: 
كنّا نقولُ إذا ما فاتنا سَحَرٌ 
لا بدّ من سَحَرٍ ثانٍ يواتينا
واليوم نرقب في أسحارنا أجلاً
تقوم من بعده عجلى نواعينا
يكتب لك صديق بحنين جارف: كم أشتهي أن أبني عشّ عصفور مع الفجر على شبّاك في بغداد، إذا عزّ مع الفجر لقاء، وعزّ مزار.. وآه يا غربة النار في بلد الثلج.. أكلما مرّت ريح. تنفّسنا الهواء القادم بشهقة العليل، وقلنا: هذا العراق؟!