جسر التنهّدات

 

تمر علينا في حياتنا اليومية مواقف لايمكن أن تذوب من الذاكرة مها حلت العواصف النفسية وألأضطرابات الحياتية التي نعيشها منذ بداية نشوئنا على هذه ألأرض ومعرفتنا بما يدور حولنا. قصص وحكايات تبقى عالقة في الذاكرة. من ألأشياء التي كانت لها مساحة محددة في ذهني عبارة أو عنوان – جسر التنهدات- أحد فصول رواية – عشاق فينيسيا – للكاتب الفرنسي ” ميشال زيفاكو” – ألأديب الفرنسي المولود عام 1860م والراحل عن الحياة عام 1918م.

 

وجسر التنهدات هذا يُعتبر واحد من أشهر جسور البندقية في إيطاليا. يقع على مسافة قريبة من ميداًان بلازا دي سان ماركوس ويصل بين قصر البندقية وأحد السجون السابقة لمحاكم التفتيش ويعبر نهر ريو دي بلازو.

 

 لم أزر هذا الجسر في حياتي ولكن كان له وقع مميز في ذاكرتي من خلال مطالعتي لرواية عشاق فينيسيا عام 1968م حينما كنتُ في الصف السادس ألأبتدائي. الكتاب يتكون من جزءين على ما أعتقد كل جزء يصل الى 500 صفحة أو أقل بقليل.

 

كان شقيقي الكبير مدرساً في ذلك الزمن ويعشق الروايات العالمية . في اللحظة التي شاهدته فيها يطالع ذلك الكتاب تمنيت أن أطالعه- ولكن الكتاب لايفارق يداه – .

 

حينما يذهب الى العمل أسرق الكتاب وأترك دروسي وأبدأ بمطالعة كل صفحة من صفحاتة بشوق.

 

أحياناً أقرأ عبارات وكلمات لاأفهم معناها ولاأستطيع أن أسال شقيقي لأنه يوبخني بشدة معتقداً أن المطالعات الخارجية تشوة ذهني الصغير وتؤدي الى إهمال دروسي اليومية. كان صراعاً كبيراً وتحدياً لي. أيام طويلة وأنا أسرق الكتاب في اللحظة التي يخرج فيها شقيقي. جسر التنهدات هو عبارة أو عنوان من عناوين الفصول الكثيرة التي يحتويها الكتاب ولم أصل الى المعنى الحقيقي لذلك العنوان. فهمت من خلال التقدم في مطالعة الراوية أن البطل – رولاند- يواعد حبيبته هناك , إضافة الى أحداث كثيرة تقع بالقرب من جسر التنهدات. الغريب في الموضوع – حينما كنت أطالع الرواية – وجسر التنهدات- كانت هناك صور كثيرة تحط في ذاكرتي أولها جسر المسيب القديم وكيف كنا نعبره الى الطرف ألاخر من المدينة.

 

 شاركني طفولتي وصباي صديق أكن له كل المودة وألأحترام وكنا نلعب سوية في مناطق متعددة. حالفه الحظ يوما وسافر الى البندقية وأستقر في إحدى الدول ألأوربية حتى هذه اللحظة. سنوات طويلة مرت. طلبتُ منه يوما ما أن يلتقط عدة صور بالقرب من جسر التنهدات. فعل ذلك إكراماً لي – كان يعرف مدى عشقي لذلك – العنوان- اليوم أرسل لي صورة للجسر بكامرتة وهو يعلق تحتها – هذا الجسر الذي حط في ذاكرتك منذ أن كنت طفلا في ألأبتدائية- .

 

اليوم يقترب صديقي من الستين ولازال يمتلك طاقة الشباب. يسافر في سيارته من مدينةٍ الى أخرى لايعترف بحدود الدول ألأوربية. وأنا هنا في بلد النزاعات والصراعات في كل لحظة. طلب مني مرات عديدة أن ألتحق به وسيساعدني في كل شيء. لم أستطع ذلك لأنني مصابٌ بهوس حب المدينة التي أعيش فيها. ليس ذلك شعوراً وطنياً كما يفسره البعض ..لكنني مريض بحب الوطن مهما يحدث ومهما تنزل عليه المصائب من كل الجهات. لاأستطيع أن أفكر يوماً ما بالإبتعاد عن الفرات ومياهه وشوارع مدينتي المتربة الممزقة. لاأعرف هل أنا مصابٌ بفوبيا الوطن أم هو عشقٌ حقيقي لايعترف بكل دول العالم أم هو جنونٌ راسخ سببه لي جسر التنهدات. “

 

 صمم جسر التنهدات المهندس المعماري الإيطالي أنطونيو كونتينو. استكمل بناؤه نحو عام 1600م. وقد أشار لورد بيرون إلى الجسر في قصيدة شعرية بعنوان شيلد هارولدز. أطلق اسم جسر التنهدات على المبنى لأن المساجين كان ينبغي عليهم عبوره. كان المساجين يرحلون من السجن إلى القصر للمحاكمة، خلال مرورهم فوق الجسر، وإذا كان المساجين مذنبين يتم إرسالهم لتنفيذ حكم الإعدام فيهم من خلال ممر آخر من الجسر.