جراحات على وجه وطن

                           

قابلتهُ صدفة ذات يوم خريفي ..تحدثتُ معهُ بحدود رسمها هو وليس أنا ...كان يحيط نفسه بأسلاك شائكة ..لم أكن أعرف ماقصة هذا الرجل الذي تخطى عمره العقد السادس ..الصدفة وحدها هي من جمعتني به في ذلك المقهى الشعبي القريب من قلعة أربيل الأثرية ..كان منعزلاً عن الجميع في ذلك المقهى يشرب قدح الشاي بهدوء ممزوج بحذر وخوف وكأنه قد أذنب في حياته ..الصدفة جعلتني أجلس بالقرب منه لأن المكان كان يعج بالزبائن ..في البداية قدمتُ له سيجاره , أعتذر مني بعدها أخذها من يدي وكانت عيناه تنطق بكلمات الشكر والأمتنان ..سألته من أين أنت ؟ تردد في البداية ثم قال لي أنا عراقي ..قلت له أعرف إنك عراقي لكن من أي مكان أنت من العراق ؟ سكت بدا لي في باديء الأمر أنه قد أعترض على سؤالي ثم قال وبتردد مصحوب بحذر هامساً لي أنه (أيزيدي) ..قلت له ..أتشرف بك جداً مهما كانت ديانتك المهم إنك انسان وهذا يكفيني أن أوليك كل الأحترام ..ثم سألته ..لم كل هذا الحذر والتردد في الإفصاح عن دينك ؟ فقال لي بعد أن تنهد بحسرة عميقة موجعه ..سأخبرك بشيء ..منذ نعومة أظفاري والى الأن وقد بلغت الرابعة والستين من العمر وأنا أكره أن يسألني أحدهم عن ديني ..قلت له ..لماذا ياعم ؟ ..قال لي ..أسمعني جيداً ..لم أتذكر يوماً من الأيام بأني شعرت أنني مواطن عراقي مثل المواطنين الآخرين , فالتمييز والتفرقة هما الشيئان الوحيدان الراسخان في عقلي ..عندما كنتُ تلميذاً صغيراً كان المعلم يجبرني على الجلوس آخر الصف رغم أنني أقصرهم قامه ولا أرى السبورة جيداً ..ولم أكن أعرف حينها سبب تلك التفرقة, وبعد أيام أنتقل ألينا تلميذً جديد وأراد هذا التلميذ أن يجلس معي في رحلتي الخشبية إلا أن البعض من التلاميذ وشوش في أذن التلميذ الجديد وجعلوه يجلس بعيداً عني ..كنت اشعر بالكراهية تغزو عيونهم رغم صغر سنهم آنذاك ..وحتى أثناء خدمتي في الجيش العراقي كانوا يعزلونني عنهم ولايقتربون مني ..وكان نصيبي من العقوبات العسكرية وفيراً جداً والحمد لله بسبب أو بدون سبب ..يعاقبني الضابط على أدنى شيء حتى وأن لم أكن المذنب فيه !! ..دائماً أشعر أنني منبوذ في هذا الوطن ولستُ وحدي من يشعر بهذا الشعور السيء بل كل أبناء طائفتي ..وبعد مضي سنوات تسرحتُ من الجيش ..تزوجت وصار عندي أولاد وبنات وبدأو هم يحملون نفس الهم والمرارة بالتعامل والتفرقة والتمييز الديني ..حتى وظيفتي تركتها وقدمت استقالتي  بعدما جرعت مرارة الإحساس بأني مواطن غير مرغوبً به ...أسمع لقد أثرت شجوني أيها الطيب ( يكمل كلامه لي) ..دائماً أفكر مع نفسي لم كل هذا التعامل المشين معي ..فقط لكوني غير مسلم ؟ وهل كان بيدي عندما ولدتني أمي أن أختار الدين الذي يناسبني ..مثلك أنت ولدت مسلماً وهذا خارج إرادتك..,

 أنا ايضاً ولدتُ إيزيدياً وهذا أيضاً خارج إرادتي ...نحن كلنا عبيد لله ولا ذنب لنا منذ البداية في  أختيار الأديان ..ثم أردف قائلاً ..صدقني إن قلتُ لك أنني فقدتُ الإحساس بالوطن وأشعر بغربة قاتلة تلازمني أينما أذهب ..ولاتستغرب أيضاً أن قلتُ لك ..لو علم صاحب المقهى الأن أنني غير مسلم لقام على الفور بطردي وتعنيفي  ...ياصديقي الطيب هذه هي حياة الأقلية في وطن يحكمه الأغلبية ...ولا تتفاجأ ان قلت لك أن أكبر مخاوفنا هي أن نتعرض الى إبادة جماعية  أو نتهجر عنوة من أرضنا ومن وطننا كما حصل مع يهود العراق في الماضي ...وأول الغيث داعش الذي أصبح يقتلنا بأسم الإسلام ويسبي وينتهك أعراضنا بأسم الإسلام وباع بناتنا في أسواق الرقيق أيضا بأسم الإسلام ...وأنا أعرف أن الإسلام بريء منهم ومن أفعالهم الأجرامية كبراءة الذئب من دم يوسف ...لكن آملنا أن ينصفنا يوماً شركاؤنا بالوطن أخواننا في الأنسانية  وأن ينظرون إلينا بعين المواطن الأنسان لابعين  أختلاف الأديان ..لأننا أولاً وأخيراً بشر نرجع في جذورنا لأب واحد وأم واحدة ...

أمتلأت عيناه بالدموع وخنقته العبرة جعلته يتوقف عن الكلام ....فقام من كرسيه ليغادر المكان كشبح يخاف الظهور علناً أمام الجميع !!