المحكمة الشعبية-2

عندما التقى عضو مجلس المحافظة (الذي لم يتكرش بعد) بالمتظاهرين سكت الجميع بينما تقدم منه رجل القانون وتكلم معه بهدوء قائلا:

نريد منكم شيئا واحدا فقط...نريد القاعة لكي نعقد فيها جلسات المحكمة الشعبية التي تحاكم الفاسدين ...هذا كل مانريده، وانا اضمن لك الهدوء والنظام وعدم إلحاق الاذى بأي شخص وبأي شيء.

بعد جيئة وذهاب وترتيبات سريعة وموافقات عاجلة اصبحت قاعة المجلس البلدي جاهزة لعقد الجلسة الاولى التي حضرتها ام المخطوف عبد الله لتدلي بشهادتها في الوقت المناسب.

***

قال القاضي بعد ان افتتح الجلسة الاولى للمحكمة الشعبية:

المتهم الاول هو المسؤول الأول في الحكومة، وقد تم ابلاغه عن طريق الجماهير في الشوارع في كل المدن بضرورة الحضور الى المحكمة، وقد تكرر التبليغ عدة سنوات لكنه لم يكترث. كما امتنع عن إرسال ممثل عنه، لذا اضطرت المحكمة لمحاكمته غيابياً وتوكيل محامي عنه. نطلب من المحامي أن يتقدم للقسم.

تقدم المحامي وردّد القسم : أقسم بالله العظيم أن ادافع عن المسؤول الاول بكل إخلاص وصدق ولا تأخذني في الحق لومة لائم بسبب الحماسة الجماهيرية، وأن لا أغفل الظروف الاستثنائية التي ادّت بالمتهم الى ارتكاب الأعمال التي يحاكم عليها.



التفت القاضي الى المدعي العام طالباً منه الادلاء بمطالعته وقراءة قرار الاتهام.

قال المدعي العام:

المحكمة الموقرة

الجمهور الكريم

يشرفني ان اكون الناطق باسم جماهير الشعب الذي يعرف الكلُّ مطالبَه ومظالمه، وسوف ترون من خلال مطالعتي انني امثل هذه الجماهير تمثيلا امينا واطالب باسمها بحقوقها دون ان يكون لي اي مطمع او طموح في منافسة المتهم على منصبه من اجل ان اجلس مكانه، فلست بعثيا سابقاً، ولا املك فضائية، وليست لي اية علاقات باقليم كردستان، ولا اية دولة اقليمية، ولست قيادياً يحاول التنصل من المسؤولية بركوب موجة المظاهرات لإلقاء التهمة على عاتق شركائه الذين عمل معهم سنوات طويلة وتقاسم معهم المناصب والمكاسب.

سيدي القاضي

ان المتهم الغائب الذي نحاكمه اليوم هو المسؤول الاول في الدولة، وهذا لا يعني انه المسؤول الوحيد، فكل المشاركين في العملية السياسية في مختلف مفاصل الدولة مسؤولون عن الفساد الذي اهدر اموال الشعب، وقد شاركوا جميعا بسرقة ثرواته اما بصورة مباشرة، واما بالتغطية على اللصوص، واما بحمايتهم، واما بإيوائهم في اقليمه، واما بالتستر على جرائمهم لأن اسمه او اسم عائلته او اسم حزبه خط أحمر، واما بالسكوت عنهم ما داموا ساكتين عنه...ان كافة هذه المواقف هي مشاركة في جريمة الفساد، فالقانون يعاقب اللص وكل من ساعده بأي شكل من الاشكال حيث يعتبر مجرماً ويستحق عقوبةً تتناسب مع دوره في عملية السرقة. ولا يعفيه من المسؤولية كونه نفسه لم يسرق او لم يستفد من المال المسروق، فالسكوت والايواء والتستر وكتمان الحقائق حول المجرم والجريمة وعدم الادلاء بالمعلومات لصالح صاحب الحق (وهو الشعب) يعتبر جرماً وفق قانون العقوبات.

وقد يتساءل البعض عن سبب بدئنا بالمسؤول الاول قبل غيره ما دام الجميع مسؤولين؟

قد يقال: اذا كان القسم الاعظم من السياسيين فاسدين، واذا كانت كل الكتل السياسية وكل القوائم البرلمانية فاسدة وكل الوزارات وكل السفارات وكل المديريات غارقة في الفساد فلماذا نكسر الجرّة برأس المسؤول الاول؟

بل ماذا يستطيع المسؤول الاول ان يفعل وسط جوقة الفاسدين الذين تملأ فضاء الدولة ودواوين الوزارات واروقة المديريات ومقاعد البرلمان وحقائب الوزارات وكافة المناصب والمواقع في الدولة؟

هل من العدل ان نحمّل شخصاً واحداً المسؤولية عن فساد كل هؤلاء؟

وهل يستطيع شخص واحد مهما اوتي من عبقرية وذكاء، ومهما تمتع بقوة في الأداء، أن يصلح كل هؤلاء الفاسدين؟ أو يمنع فسادهم؟



ساد لغط في القاعة وارتفعت الهمهمات فتدخل القاضي وضرب بمطرقته على الطاولة، لكن اللغط لم يهدأ.

قال القاضي:

بدون الهدوء لا يمكن للمحكمة ان تواصل عملها، اذا كانت هناك وجهة نظر تساعد العدالة فليتقدم احدكم الى منصة الشهود ليقول ما لديه.

تقدم أحد الحاضرين وقال:

سيادة القاضي، ان المدعي العام يدافع عن المتهم ويبرّر له افعاله، هو يتكلم وكأنه وكيل المتهم لا وكيل الشعب.

قال له القاضي: حسناً عد الى مكانك. ثم قال: العدالة تتطلب الاحاطة بكل الحقائق، واستقصاء كل الحجج وعدم اغفال حتى تبريرات المتهم او الظروف التي ربما اجبرته على ارتكابه الجرم الذي نحاكمه عليه. هذه محكمة تريد احقاق الحق لصالح الجماهير الشعبية، وليست فضائية تدعو الى الفوضى لصالح دولة اقليمية. صحيح ان المدعي العام محامي الشعب لكنه ليس محاميا ظالماً يتغافل عن الحقائق ويقفز على الواقع. دعه يكمل مطالعته واذا وجدت فيها اي تقصير او انحياز لصالح المتهم على حساب الشعب فيمكنك التقدم للكلام.



واصل المدعي العام قراءة مطالعته:

قد يقال يا سيادة القاضي ان المتهم امام الوضع الذي وضعـَتْه فيه المحاصصة يجعله في حِلٍّ من المسؤولية عن الفساد الذي مارسه البرلمانيون لأنه لا سلطة له على البرلمان، وليس مسؤولاً عن فساد القضاء لأن القضاء خارج سلطته أيضاً، وقد يقال انه ليس مسؤولا عن فساد الوزراء من الكتل الاخرى لانهم مفروضون عليه من قبل كتلهم السياسية ولا يستطيع ان يعترض عليهم لكيلا يتهم بالخروج عن التوافقات السياسية فيصبح دكتاتورا.

وقد يقال ان مسؤولية مكافحة الفساد تقع على عاتق لجان النزاهة وهيئات المراقبة والسلطة القضائية ، فهي التي يحق لها ويجب عليها التحقيق في الفساد لتثبت التهم وتصدر الاحكام .

وقد يقال ان الفساد الذي استشرى في كل مفاصل الدولة مارسته عصابات ماهرة وبارعة في اخفاء كل الادلة و إتلاف كل الوثائق، و لذلك فان المسؤول الاول لا يمكنه ان يلاحق او يحاسب الفاسدين وهو لا يملك اية وثائق كافية لإدانتهم.

وقد يقال ان الحديث عن فسادهم بدون وثائق كافية يعطيهم الحق في مقاضاته بتهمة التشهير بهم وبالتالي ينجو الفاسدون ويدان المسؤول الاول.



قد يقال كل هذا في الدفاع عن المسؤول الاول لتبرئته من تهمة الفساد.

لكن الادعاء العام يملك وثائق كافية لتفنيد كل هذه الادعاءات، وقد قام الادعاء بتسليم الوثائق للمحكمة الموقرة، وكان اخرها الوثائق المتعلقة بخطف المراهق علاء عبد الله الذي تقف امه هناك دامعة العين تنتظر كلمة العدالة.

سيدي القاضي

المتهم الذي نحاكمه غيابيا اضافة لوظيفته مسؤولٌ عن كامل الفساد بكل اشكاله وعلى كل مستويات الدولة وذلك للاسباب التالية:

1. انه أعلى مسؤول في الحكومة، وكل مسؤول آخر هو اقل منه ويتبع له اداريا. فهو مسؤول ادارياً عن عمل جميع موظفي الدولة اما بصورة مباشرة، واما بصورة غير مباشرة.

2. انه يملك الصلاحيات الادارية والقانونية الكافية التي تخوّله محاسبة جميع المسؤولين بدءاً من الوزراء فما دون.

3. ان فرضَ وزراءٍ عليه من خلال المحاصصة لا يتطلب بالضرورة السكوت على فسادهم، بل بالعكس يستطيع ان يحاسبهم ويدينهم ويطلب من الذين رشّحوهم- حتى ضمن المحاصصة - ان يبدلوهم بوزراء اخرين لا يمارسون الفساد، ولو فعل هذا لعزّز موقفه عند الجماهير وفي السلطة دون ان تنهار العملية السياسية، فما أسهل ان تقدم الكتلة وزيراً بديلا يتعظ بمصير الوزير الذي اكتشف فساده، او يدير الوزارة وكيل.

4. اذا كان اعلى مسؤول في الحكومة بما يملكه من امكانيات مالية وقانونية وعسكرية في الدولة، وبما يوفره له منصبه من قدرةٍ على حشد الطاقات العلمية والادارية...اذا كان مع كل ذلك عاجزاً عن معرفة الفاسدين، وعاجزا عن اكتشاف موارد الفساد، وعاجزا عن وضع برنامج لإيقاف الفساد، وعاجزاً عن فعل شيء....فمن هون القادر اذاً؟ ولماذا تقدَّمَ لشغل منصب المسؤول الاول في الدولة وهو بهذا العجز؟

5. ولو فرضنا انه لم يكن يعلم بهذه الحقائق في البداية، وكان يتوهم قدرته فلما تورّط بالمنصب اكتشف عجزه، فلماذا لم يخرج للشعب الذي انتخبه ليقول له بصراحة انه عاجز؟ بل لماذا اعاد الكرّة وقدّم نفسه للمسؤولية مرة اخرى وهو بهذا العجز؟ بل اكثر من ذلك...تقدم للمرة الثالثة وكاد يظفر بما اراد لولا مؤامرة الفاسدين الاخرين الذين خططوا للتخلص منه...والغريب انه تقدم للمرة الثالثة دون ان يقدم اي برنامج لمكافحة الفساد!

6. لقد قضى المتهم سنوات يهدّد خصومه بكشف ملفات فسادهم...والسؤال هو؟ اذا كانت هذه الملفات تحتوي على وثائق كافية لإدانتهم فلماذا لم يكشفها؟ وان لم تكن كافية للإدانة فلماذا كان يهدد بها؟ بل اين هي الان؟ واذا كان صحيحا انه سلمها للقضاء وقتها، فليكشف لنا لمن سلمها؟ وهل يمتلك ايصالاً بالتسليم؟ او نسخة من الكتاب الرسمي بذلك؟ ونسأله ايضاً: هل احتفظ بنسخ من تلك الملفات ليبرزها للمحكمة؟ ام سلمها دون ان يصورها ويحتفظ لنفسه بنسخة لوقت الحاجة؟ أم انه لا يدرك اهمية الاحتفاظ بنسخة احتياطية؟

7. واذا كان يخاف من محاسبة وزراء الكتل السياسية الاخرى خشية انهيار العملية السياسية حسب ادعائه، فهل حاسب المنتمين الى كتلته السياسية ؟ أم ان العملية السياسية تنهار اذا حاسب كتلته او قائمته ايضاً ؟ أم ان كتلته وقائمته لم تمارس الفساد؟ بل هل حاسب المنتمين اليه شخصيا من اقارب؟ بل هل حاسب اعضاء مكتبه الذين يحتفظ الادعاء العام بالوثائق الكافية على فسادهم الذي جرى تحت سمعه وبصره؟

8. واخيرا الفت نظر المحكمة الموقرة الى وثيقة حصل عليها الادعاء العام حول قيامه شخصياً بتزويره (وبخط يده) لشهادة علمية لاحد مقربيه وتعيينه ذلك المقرب بمنصب وزير، ثم نائب لرئيس الجمهورية.



ارجو من المحكمة الموقرة ادانة المسؤول الاول بالفساد وتحميله المسؤولية عن كل ا لجرائم التي ارتكبت بسبب الفساد باعتبارها نتائج ضرورية للفساد الذي يتحمل مسؤوليته اضافة الى المسؤولين المباشرين.

كما ارجو ان تستدعي المحكمة للتحقيق كلَّ من يتهمه المسؤول الاول في دفاعه عندما يحيل المسؤولية اليهم، فهذه هي الطريقة الصحيحة في الامساك بكل خيوط شبكة الفساد. نأتي بالمسؤول الاول فيعترف على المسؤولين الاخرين فنأتي بهم وهكذا تتوسع دائرة الاتهام حتى لا يبقى فاسد الا وأتى به فاسد قبله.
***

بعد سماع مطالعة الادعاء العام اعلن القاضي رفع الجلسة فتوجهت ام المخطوف عبد الله الى المدعي العام وسملته ملفاً لم يعرف احد محتواه.

للقصة بقية...