جامعو العسل في العراق.. وزفرات ذياب شاهين

 

يا لِفتنة العراق، لأهله وللعرب وللعالم في غابر الزمان وحاضره، فلا الفكر ولا الحضارة ولا حتّى السياسة يمكن أن تشكل تعبيرات للوجود أو تتّخِذ من الحياة ـ رغم قصر مدتها ـ حالة من التسجيل للأحداث بدونه.. إنه حالة حضاريّة تبدو أحيانا عابثة ولاهية لدرجة المجون، ولكنها تعود بعد تكلفة بشريّة وماديّة، مهما طال زمنها، باعثة لقيم الانعتاق، وصانعة للأمجاد، ومُبْعدة للمدنّس حتى لوكان باسم محتكري الدين، ومُظْهرة للمقدس في فعل بشري تغييري، وربما يكون الاعتقاد بصيرورة مقدرات العراق البشرية والمادية، هو الذي يجلعني أرى العراق مشرقاُ، طاهراً، نقيّا، في الغد القريب، وقد بدأت تجليات مرحلة الطُّهر تظهر مع تلك الحشود البشرية التي نراها ساعية للتغيير من خلال استعادة الدولة المدنيّة.

ولتلك التجليّات ارهاصات سابقة، عبّر عنها كثير من السياسيين العراقيين، عبر تصفية الحسابات من أجل الوصول إلى الحكم، ومعظمهم طرح قضيّة عادلة من أجل أهداف لم تكن نبيلة في الغالب، أو على الأقل مشكوك في هوية أصحابها، إما لعملهم الشائن، المتمثل في ترجيح كفة الباطل على حساب الحق في تنسيق ودعم وتفاهم ـ لدرجة التواطؤ أحيانا ـ  ضد مصالع عامة الشعب بين المرجعيات الساسية والدينية منذ العام  2003  أو لاستقواء بعضهم بالخارج لخدمة مصالح أقليمية أو دولية بمبررات مذهبية وطائفية وعرقية، ما يعني أنه لا يمكن التأسيس على تلك الإرهاصات للقول: أن انتفاضة الشعب العراقي اليوم هي نتاج خالص للسياسيين، وإن كان هذا ينفي وجود قلة نبيلة مؤمنة بوحدة العراق وحقه في النمو والإزدهار، وهي قلة أبعدت كونها رفضت أن تكون طرفاً في فريق الفساد.

وجه التغيير

لقد شكّل المفسدون في العراق فريقاً، يمكن أن نطلق عليه أسم” جامعو العسل”، مستنجدين هنا ومستعينين بديوان” جامع العسل” للشاعر والباحث العراقي” ذياب شاهين”ـ الصادر عن دار النسيم للنشر والتوزيع في القاهرة مطلع السنة الجارية(2015 ) وفيه ظهرت ارهاصات التغيير في بعض من القصائد يعود تاريخ كتابتها ـ وليس نشرها إلى العام 2012 ـ باعثة على سخط عام مصحوب بالتفاؤل، وتلك الكتابة، التي هي سياق عام لتسجيل الأحداث والتعبير عنها من النخبة العراقيّة، تُمثل ـ في نظري ـ الوجه الحضاري للعراق، الذي لا يراه العرب، أو بالأحرى لا يقرأون تقاسميه وملامحه، مع أن فيه سمات التغيير ظاهرة، من كثرة التضحيات، نتيجة الفساد بكل أنواعه، وكل أزمنته، وكل أهله.

الاستنجاد بديوان” جامع العسل” لذياب شاهين لا يعني ـ في المطلق ـ أننا نطوّع النص الأدبي ـ الإبداعي للموقف السياسي، ولكن يعني، وبالتزام علني واضع، التعويل على الإبداع، شعرا كان أو نثرا، من أجل فهم الأحداث السياسية، فآهات وزفرات الشاعر أو الروائي أو القاص أو حتى الناقد بصيغتها الجمالية على ما فيها من مُضْحٍكات ومُبْكيات هي تعبير وجداني وأدبي لما يدور بين الناس وفي صدورهم، وما يتمنون بقاءه أو زواله.

من ناحية أخرى فإن الاستتجاد بالشعر من أجل وصف الحال العام ميراث عربي قديم، لسنا على استعداد ـ مهما تطورت أساليب الكتابة ووسائل التعبيير ـ التخلي عنه، ليس فقط لكونه يعبّر عن الضمير الجمعي حتى حين لو كان تفجيرا لشهوات الجسد أو لغته، أو عندما يكون لقاء بين حبيبين على مجرى نهر أو عند أطلال منازل مدن كبرى وفي قرى الروابط الاجتماعية الكبرى، حيث الأوطان تسكن الأنفس.. منازل هناك كانت قديما ديار وأحضان دفء نحسبها دائمة ودمرت بفعل المُفْسدين، ليس لهذا فقط، وإنما لأن اهتمامات الأدب لا تطالها أيادي السيّاسيّين إلا فيما ندر، حتى عندما تكون معادية للدولة ومعطّلة لمشاريعها، كمأ أنها غالبا ما تنجو من مقص الّرقيب، إلا إذا كانت نقدا مباشرا يحول دون وقائع جرائم جماعات الفساد، أو تولّت بطانة السوء من الأدباء والكٌتاب التبليغ عنها في سياق تحالف بين جماعتا الفساد وبعض أشباه المبدعين.

أًيُّها الفاسقون

لذلك كلّه أورد بعض الأبيات من ديوان” جامع العسل” راجياً من القراء أن يكسروا الحواجز الفارقة بين السياسة والإبداع الأدبي، وأن يتأملوا قوة الكلمات في التعبير عن فعل السياسيين، يقول ذياب شاهين في قصيدة  بعنوان” أيها الفاسقون”ـ اهداها للسرّاق ومجوعي الناس ـ  كتبها في بغداد خلال شهر نوفمبر العام 2012 :

قل يا أيّها الفاسقون

لا أكتب ما تكتبون

و لا أقرأ ما تقرأون

دجلة بَراء من أكُفِّكم

والفرات أُجَاج في حلوقكم

بئساً لما تفعلون.

وفي هذه القصيدة يعتبر الشاعر الفاسقين، جاهلين منافقين، آكلين للسحت، ساهين ومرائين، وخافضين وناصبين، وهي جميعها صفات تشكف عن الفساد، الذي هو السبب اليوم في انتفاضة العراقيين.

بائسات بابل

وفي قصيدة أخرى طويلة بعنوان” وراء كل لص زانية” كتبها في تموز 2013  وصحب عنوانها بالعبارة التالية ” إلى سرّاق بلادي.. أعرف أنكم لا تخجلون”، يقول في مطلعها:

منذ ربع قرن

وبائسات بابل

يصمن ويتسحرّن

في الظلام

***

آه يا بنات دجلة

الأسلاك عاطلة عن

العمل

والصبر يعبث بالرجال

والدولة غراب

أضاع مشيته

فما عاد يقفز كالعصفور

أو يدرج كالحمامة

أَأنوح على الموتى أم على الأحياء

والصغار أذبلت

خدودهم زهور الحجيم

في تموز

وفي قصيدة” الشمس ما عادت أجمل”، وقد كتبها الشاعر في بغداد خلال شهر آيار 2013  يقول:

آها ياحبيبتي

ألتقيكِ سراًّ

وأطعم فراخي

غربةً في وطني

وفسيلتي البكر

منع عنها

وزير متأسلم

مياه التعليم في الجامعة

خياراتي صعبة

أًأُصفّق للدكتاتور

أم أبْصق في وجه الحرية

لا أمل لي

البقاء هنا

أقسى من الرحيل

إلى المنفى.

قضايا كثيرة يطرحها الشاعر ذياب شاهين تعبر عن العراق من الداخل، وهو بذلك يساعدنا من خلال حالته الوجدانية وتأثره بالواقع السياسي في بلاده على فهم الأحداث الراهنة في العراق وفي باقي الدول العربية، لأن البداية كانت العراق، وأيضا لأن جامعي العسل في كل الدول العربية يفكرون بنفس المنطق، ويقومون بنفس الفعل سواء أكانوا على رأس السلطة أم في أحزاب المعارضة، طرحهم ديني أو سياسي، فأساليبهم شتى ولكن دوافعها واحدة، وما يجعلنا نجزم بتحقق توقعات شاهين في الآجال القريبة، هو ما نراه اليوم من انتفاضة على الأوضاع ، بعد أن قطعت الأرزاق ومعها الأعناق.