مادليون ...مدينة الريح والرماد.. عباس علي العلي |
اتجاه الريح لم يكن سوى أشارة يتخذها أهل مادليون تلك المملكة الرائعة التي بني ملوكها مدنهم مخمسه الشكل , السر بين الريح والشكل المخمس لم يكشف بعد ,حتى قراءة ما تركوه أهل هذه المملكة من أثار لا تتيح لقارئ أثأري متخصص أن يفهم عالم الأسرار المحيطة بوجودها ,كيف بدأت وأين مصير الناس فيها ,لا أثار توحي لدمار حل بها ولا حتى هناك ما يشير لمجاعة ,كل ما في المدينة الآن فقط برج الرماد الشاخص بطبقاته ألخمسه العمودية وسط ساحة المدينة "زاد" أو هكذا رمز لها الأثريون عندما اكتشفوا عالمها الرائع هذا . الغريب في المدينة كباقي المدن الأثرية أنها لا تملك مقابر ولم يكتشف فيها أثار حتى لعظام أو بقايا لكائنات حية ,حاول علماء البعثات الغربيون الذي كشفوا البعض من أسرارها أن يستدلوا على نمط الحياة مقارنة بما تماثله المكتشفات الأثرية الأخرى بالمدن القريبة أو المالك القريبة تأريخا ومكانا ,تنفرد هذه المدينة بعلامات فارقة تتمثل بتنوع الرموز فيها وتحديدا رمز الشمس والنجوم في جزئيها الشرقي والشمالي أما الجزء الغربي وهو الأكف والأكثر حضورا وعمرانا فقد تميز بكثرة الأسواق والطرقات ومستلزمات العيش المدني . هناك في الجهة الجنوبية الغربية للمدينة حيث تكثر الحفر المدورة الخالية من كل شيء فقط سلاسل من حفر منحوتة بالصخر أو السن الصخري الذي أنشئت عليه المدينة ,خالية من كل شيء وعلى شكل دوائر منغلقة على نفسها لا يفهم من تشكيلاتها غير أنها محابس أو محاجر استنادا للسور الذي يحيط بها ويرتفع بما يعادل طول شخص عادي مضروبا في خمسة ,في الجزء المقابل له الجنوب الشرقي هناك أيضا حفر مماثلة ولكنها أعمق كثيرا وأقل حجما في فوهاتها والغريب أنها أيضا لم تسكن ولم تحوط بسور . في وسط المدينة برج عال يشبه برج بيزا المائل في إيطاليا ,شرفاته مفتوحة في كل الاتجاهات من يراه يظنه مجرد شرفات أو هكذا يبدو للناظر من بعيد أنها تستخدم للإطلالة على المدينة بكاملها ,حاولنا الصعود إلى طابقه الأول وبكل حذر يأخذك الشعور بالرهبة والدهشة معا وأنت ترى في وسط الطبقة الأولى حوض أو ما تبادر لي كبير جدا يقارب في سعته كل الطابق إلا ما ترك للممشى ,في وسطه لا يوجد غير رماد أو بقايا من رماد مخلوط بالغبار العابر ,في الطبقة الثانية منه نفس المشهد لكن الحوض أقل قليلا من ما موجود في الأول ,وهكذا وصلنا لقمة البرج حيث لم يتعدى مساحة الحوض مقدار صحن أكل كبير . النقطة التي حيرت كل المستكشفين تدور حول الرماد والتنسيق البنائي الذي يجعل من شكل المدينة وكأنه ممرات للريح القادمة والتي يسوقوها من كل اتجاه نحو البرج ,البنايات الكبيرة والضخمة والمرصوفة بأشكال هندسية غاية في الدقة التصميمية والتنفيذية توحي أن الهندسة المعمارية الحالية لم تبلغ مصاف تلك المباد الهندسية التي أنشأت وخططت ورسمت ونفذت هذه المدينة ,بل استمعت إلى رأي أحد أفراد البعثة الأجنبية وهو يشرح الفروق الجوهرية بين الهندسة المعمارية المعاصرة وبين تلك التي كانت هناك ,مبينا أن العقل الهندسي الذي نفذ البناء بالضرورة أن هناك عقول راقية موازية له هي من تملك سر اختفاء المدينة وسكانها عن الوجود هنا . في المنطقة التي تواجه الشمس في شروقها وهي الجزء الأصغر من المدينة نفس أشكال البناء ونفس الطراز المعماري لكنه لا يتعدى حدود الخمس بنايات أو كتل ممتدة بالتنازل من حيث العمق من الخارج للداخل بحيث أن البناية الأخيرة مساوية لارتفاع الطبقة الأولى من البرج والأولى البعيدة تماما بارتفاع كامل البرج بينها وبين الجزء الشمالي ممر عريض جدا يتسع كثيرا من الخارج ويتضاءل حين نصل قريبا من البرج ,في هذا الجزء العمارة ذاتها والطراز واحد بالتنوع والارتفاعات ويأخذ مساحة أكبر ويمتد إلى حدود الجزء الأكبر والأوسع من المدينة وهو الممتد من الشمال الغربي إلى حدود الغرب تماما لتنتهي كل مظاهر الأعمار. كل شيء في المدينة يوحي أن حدثا ما وراء سر هذا الصمت الأبدي سر الريح والرماد والاتجاهات الخمسة ,من بين الرجال والنساء العاملين هناك أحد ما يرسم خطوط ويفترض افتراضات على الأرض دون أن ينبس بكلمة , إنه الحاج زاير أو الملا زاير المعروف في الجوار واحدا من أكابر علماء الآثار الفطريين , شارك بكل فاعلية في الكثير من بعثات التنقيب ويعرفه الأثريون تماما أنه العقل الثاقب الذي يقرأ لون التربة ويشم رائحة الهواء ويسمع كلام الأرض التي لا يسمعها غيره . راقبنا الرجل من بعيد وهو مشغولا بعمله صاحبي الذي تستهويه حكاية البحث عن مصير هذه القرية لماذا أختفت وبأي لغة أو مفهوم يمكننا أن نجد مبررا لذلك ,أما أنا كان يصعقني هذا التناسق الرهيب بين العمارة والتخطيط ومحاولة البحث عن ربط ما بين الخطوط المجسمة وبين فكرة البقاء أو الرحيل , كلانا كان يبحث عن وجه للحقيقة والحقيقة قد تكون مع شخص ما أو في زمن ما لكنها الآن الغائب الذي لا ضرورة في أن يغيب . وحدها البنايات التاريخية بهياكلها العامرة التي نحتها بكل دقة وذوق ينم عن روح أصيلة تمتلك الكثير من الإجابات ولكن لا أحد يؤمن أن الحجارة تتكلم , صديقي الذي شده عناده لأن يفهم ويفهم كانت مقولته المشهورة أن البعض من الحجارة التي ألتصقت بها روح الفن وتعامدت مع التاريخ هي التي تتكلم بلغة لا يمكن لأحد أن يكذب ما تقوله, الحجارة المنحوتة تملك كل الصدق والنقاء وتقول الحقيقة مطلقة لمن يملك سر أبجديتها الخاصة . الملا زاير من يراع من غير معرفه سابقه يظن أنه ليس أكثر من فلاح أو حارس جاهل لا يفهم بمعنى الحضارة ولا بلغة الحجر والتاريخ ,وحدهم أهل الخبرة يمكن الوثوق بهم على أقل تقدير في تفسير البعض من المبهمات حتى يقوم الدليل ,ذهبنا أنا وصاحبي نحمل أبريق الشاي وبعض الكؤوس التي تستخدم لمرة واحدة في محاولة منا لاستفزاز ذاكرة الرجل وخزينه المعرفي عن هذه البقعة الغريبة . |