لطفاءُ أريبون مدهشون ذوو دهاء وحَيطة وتقيّة على نحو غير مسبوق. محترفون في المشي فوق الحبال، ولا يقعون. يطيرون من شجرة، إلى أخرى، لا كالعصافير، فهم لا يحملون عذوبة العصفور ونقاوة قلبه وحبّه للحياة وللطبيعة. إنما يتعلقون من أقدامهم في أغصان الشجر مثل الخفافيش، وينتظرون. وحين يبصرون طريدة تسير غافلة بين الشجر، يتحولون في لحظة إلى حداءات ناهشة، تنقضُّ ناشبة أسنانها في عنق الضحية ثم يشرعون في مصّ الدماء. لكنهم قبل الانقضاض يُجرون في رؤوسهم عملية حسابية سريعة، فإن كانت الفريسةُ ضعيفةً مهيضةَ الجناح، تمّ الانقضاض. وإن كانت قوية ذات بأس وسلطان، جبنوا وانكمشوا في جحورهم برهةً، ثم يبدأون طقوس التزلّف والتملّق والمداهنة حتى يصيروا خدمًا مطيعين لذوي النفوذ، ويظلون وحوشًا ناهشة للمستضعفين في الأرض. يجيدون اللعب بالكروت في كل عصر وفي كل جغرافيا. ولهم أسماءُ عديدة في كل بقعة من بقاع الأرض، وفي كل زمن على روزنامة التاريخ. في عصور الظلام في أوروبا القروسطية، كان اسمهم رجال الكنيسة الكاثوليكية، وفي مصر العصر الراهن، أصبح اسمهم الإخوان وحزب الوسط والجبهة السلفية والجماعات الإسلاموية وحزب النور وغيرهم. كيف ظهر أولئك اللطفاء بعد ثورة 2011، ولماذا ما كان لهم وجود قبلها؟ قبل الثورة كان يمنع ظهورهم القانون رقم 40 لعام 1977 الذي كان يمنع تكون أحزاب على أسس طائفية وعقدية. وهذا النهج الرفيع كان امتدادًا للحالة المتحضرة التي نشأت بعد ثورة 1919 حيث توحّد المسلمون والمسيحيون واليهودُ المصريون من أجل تأسيس دولة مدنية متحضرة لا تعرف الهوس الطائفي ولا العنصرية العقدية، بل تبنّت تكريس الانتماء للهوية المصرية والقومية، والتوحد من أجل خلق حالة ثقافية تساعد مصر على اللحاق بالركب الحضاري والعلمي الذي تخلفت عنه. ولكن بعد 2011، نجح أولئك اللطفاء في إقناع الشعب المصري أنه ناقص عقل ودين، وأن أولئك اللطفاء، هم رُسل السماء الذين أرسلهم الله للأخد بيد المصريين "ناقصي الدين"، نحو الجنة. ولولاهم لزُفَّ أبناءُ مصر إلى الجحيم جموعًا حاشدة إثر جموع. وبدأ اللطفاء في اعتلاء منابر المساجد ليدعوا على الليبراليين والمثقفين والمعتدلين الطبيعين من البشر بالويل والثبور وعذاب القبور، بعدما كان دعاؤهم مقتصرًا على الكفار وهم: "النصارى" (المسيحيون) واليهود. لهذا انتعشت حالات الهوس الديني التي سمحت لتلك الأحزاب بالتكون في غفلة من الزمان في مخالفة صريحة للقانون وللدستور المصري الجديد. وماتت حركة التنوير التي أطلقتها ثورة 19 وذهب أدراج الرياح كل كفاح أجدانا المفكرين العظماء من أجل بناء مصر المستنيرة. لكن ثورة جديدة اشتعلت في مصر ضدّ أولئك اللطفاء، ونجح المصريون من انتزاع مصر المحتضرة من بين أنيابهم في يونيو 2013، في محاولة لاستعادة حراك التنوير الذي بدأه آباؤنا المفكرون وأجهضه تجارُ الدين البلداء المرتزقة. لكنهم كالفينيق ينبعث من رقدته كلما نجح التنوير في كبح غلظته واستعدائه لخلق الله. كيف؟ لأنهم جهابذة في التحايل على القانون، بدأوا في خداع غير المسلمين بعدما كان اشتغالهم محصورًا على خداع بسطاء المسلمين، وفقط. نجحوا في تدجين مسيحيين ليدخوا حظيرة حزبهم العنصري، ففوتوا على القانون فرصة مواجهتهم بمواده. ولكن أولئك اللطفاء نسيوا أن الشعب في مجمله قد استفاق من خداعهم وبات على دراية كاملة بزيفهم وريائهم واتّجارهم بالدين والسماء. مازالوا يستخدمون "الكارت الخايب" الذي بدأ في 19 مارس 2011 بغزوة الصناديق، وانتهت يوم 30 يونيو 2013 بالثورة على أدعياء الدين. بالأمس أطلّ علينا قادة حزب النور يهتفون في جموع الشعب: انتخبوا أعضاء حزب النور حتى تدخلوا الجنة. لكن المصريين ما عادوا يصدقون ترهاتهم فابتسموا وقالوا: “الدين لله والوطن للجميع، أيها الغلاظ أعداء الله وأعداء الوطن. فكفّوا عن المتاجرة بالكارت الخائب الذي لا تملكون سواه. -;---;--سأل أعرابيٌ رجلا صحابيًّا ذكيًّا: "مَن سيحاسبُنا يوم القيامة؟-;---;-- فأجابه الصحابي: "الله.” فقال الأعرابيُّ: "نجونا وربّ الكعبة، فإنّ الكريم إذا ملك عفا.”
|