كلا للعلمنة .. كلا للثقرّطة

 

غالباً ما يتساءل البعض بالقول لماذا يحاول البعض منا تحريم أشياء وإحلال غيرها, رغم إنهما من منبع واحد وردتا إلينا, بمعنى أدق, لماذا نُحرم العلمانية ونُبيح الثيوقراطية, وهم كلاهما منتوجان غربيان أوروبيان نشأ في بيئة غربية وأنبثقا من رحم الفكر الأوروبي المسيحي؟؟

 

   فالثيوقراطية تعني بالاساس مفهوم نظري ليس له من رصيد يذكر خلال المسيرة الطويلة للتاريخ الإسلامي  وإنْ الدولة الدينية لن تنتج الدين قطعاً  لأنها ليس من الإسلام بشيء ولن تكون كذلك, فللإسلام خصوصياته ومزاياه التي لا يمكن تقليده لغيرها او طمّسه لمعالمها ؛ والعلمانية بذات الشق تحمل نفس طروحات الثقرطة بمعنى إنها لا تتمتع برصيد يُذكر خلال المسيرة التاريخية للإسلام وإنْ الدولة العلمانية لن تنتج الدولة العربية قطعاً، ولأنها ليست علمانية عربية أو إسلامية من داخل البيت العربي الإسلامي.

 

  بالرغم من إننا لسنا من انصار المدارس المطلقة والتعميمية لدراسة الظواهر والأفكار التي تطرأ على المجتمع, وبرغم إننا ننظر إلى معطى الظواهر لا إلى مسبباتها, إلا إننا ننقد الرؤية الإسلامية التي تكيل بمكيالين, التي تؤمن ببعض الكتّاب وتكفر ببعض, فهي من جانب تُحارب العلمانية لكونها فكرة مستوردة, لتعود من بعد تكفيرها للبضاعة الغربية لتستورد الثيوقراطية وهي نفس البضاعة مع اختلاف فقط في الكارتون والشكل وعلامة الشركة وتاريخ الصلاحية, وهو أمر مثير للسخرية أكثر مما هو مثير للدهشة, فهي لو كانت تحمل شجاعة وعقل تنويري متحرّر لما, لكن الموقف ذاته متشابه بالنسبة للفهم العلماني الذي يمارس نفس الرذيلة التي مارسها الإسلاميون من كونه _ أيضاً _ مع فارق تبادل الأدوار, أي انهم قبلوا ونظروا للعلمانية في وقت رفضوا فيه الثيوقراطية على اعتبارها مفهوم كنسي أوروبياني, وهذا هو سبب الإخفاق العربي في حسم موضوع الصراع بين الدين والدولة في الفكر العربي الحديث والمعاصر.

 

   أي أن سبب الإشكال والخلل الحاصل في موضوع الدين والدولة عند العرب ناتج في كون إنْ المشكلات عربية _ إسلامية والحلول دائماً مستوّردة اجنبية, وافدة من الغرب المسيحي, سواء أكان الحل لا ديني (علماني) أو ديني (ثقرطي), ولم يكن حلاً عربياً إسلامياً, أبن البيئة العربية والمعطيات الإسلامية, بل إنها دوماً كانت المشكلات التي يعاني منها الفكر العربي هي مشكلات عربية محلية والعقل العربي الكسول يجاهد من أجل نقل الأفكار والثقافت كحلول أجنبية مُغربة, لم تحترم الخصوصيات العربية أو تناسب أو تراعي الذائقة العربية _ الإسلامية.

 

  وأنْ المذهل هو إنْ عملية إدخال الثقرطة تمت بنفس الطريقة التي تم إدخال العلمنة إلينا ووفودها عن طريق المبتعثين, وسيد قطب (مُنظر الأصولية العربية) خير الامثال عاش في أوطان ما يسمى الغرب الأرور_ امريكي (الولايات المتحدة تحديداً) وبعد عودته تبنى الخيار الإسلامي الراديكالي الفاشي بما يسمى الثيوقراطية, إذا كان الإسلاميون يتهمون المبتعثين العرب الذين تلقوا تعليمهم في غرس بذور العلمنة فمن حقنا نحن اليوم _ هنا _ أنْ نتهم الإسلاميين المبتعثين بنفس السياق الخضوع لنفس القياسات والاجراء التي عوملت بها العلمانية _ لا دفاعاً عن العلمانية وإنما لنقد الوفود الغربي _, ولو إنْ هذا الطرح هو ليس نظرية ثابتة النتائج إلا إنها تحمل معان ودلالات مهمة في التنظير السياسي والنفسي, ولا ننسى إنْ أغلب الانتحارين (أو الاستشهاديين وفق الفقه الجهادي) هم ليسوا خريجي المدارس الدينية أو تتلمذوا على يد المؤسسة التعليمية الدينية, وإنما أولئلك الذين تتلمذوا وترعروا وعاشوا ودرسوا في بلاد الغرب الأوروبي (بريطانيا, فرنسا, ألمانيا، وغيرها), وحتى المتهمين بتفجير برج التجارة العالمي, هم عرب لكن ليسوا خريجي جامعة الزيتونة أو الأزهر أو المدارس الدينية العربية وإنما خريجي جامعات غربية, كمحمد عطا (مصري) المتهم الأول هو خريج جامعة هامبورغ عاش في هوليود, وليد الشهري (سعودي) أقام في فلوريدا ودرس الطيران, وكذلك الحال سطام السقامي (سعودي) وعبد العزيز العمري (سعودي), وهو بالوقت ذاته رّد أكاذيب الغرب الذين يتهمون مناهجنا التعليمية بالقصور الثقافي وحملها الفكر المتعصب, فالتعصب ثقافة أمريكية لا دخل للعرب فيها, والتعصب هو الذي جعل مشكلة العلمنة والثقرطة حاجز ممانعة لدخول العرب عصر الدولة الحديثة, لأن التعصب لا ينتج إلا الخلافات والانقسامات والفوضى الخلاقة.

 

  أذن نحن هنا نرفض الثقرطة بنفس الرفض للعلمنة, لا لمجرد إنهما أفكار غربية؛ وإنمْا لبُعدهما عن الواقع العربي وعجزهمْا عن حل إشكالياتنا الفكرية والفقهية والسياسية لأنهما كعلاج خُصص لمرّض غربي؛ والطبيب لا يمكن أنْ يُعطي علاج واحد لمريضين!!

 

    كما إنْنا نرى فيهما اخطاء تاريخية جسيمة تحتاج إلى تصحيح مسار ومراجعة نقدية عربية إسلامية فاعلة؛ وندعو إلى تأسيس جبهة ممانعة للأفكار الغربية المُهينة للعرب والمسلمين سواء أكانت أفكار مدينية؛ كالعلمانية أو أفكار دينية؛ كالثيوقراطية، فالإسلام أكبر من جميع الثقافات.

 

   فليس كل ما هو وافد نافع بمجمْلة؛ ولا هو ضّار في مجمْلة؛ “العقل العربي الفاحص والمتنور وحده من يستطيع مُمْاشاة النظرة النسبية لألأمور وجفاء النظرية المطلقة بالمرّة؛ وبالتالي نؤكد “خلطة فكرية مزيجية” من علمانية عربية المنشأ ودينية إسلامية الانتماء؛ أي دينية لا تتجاوز على الدولة العربية ولا يُهمش دورها؛ دولة عربية مدنية عصرية تعطي للدين قيمته الرمزية والروحية.