من ثوابت العقول المتحجرة

 

 
 
لا يخلو أي خطاب رسمي في مؤسساتنا من عبارة (للتفضل بالاطلاع مع التقدير)، فهذه العبارة المملة المُستهلكة هي الأكثر تداولاً وشيوعاً، والأوسع شهرة وانتشاراً، والأقدم تطبيقاً في مراسلاتنا الورقية، حتى صارت وظيفة معظم المدراء وأنصاف المدراء وأرباعهم مقتصرة على هذه الكلمات المتحجرة المتكررة الموروثة من مخلفات التراكمات  البدائية البليدة. كلمات مانعة مائعة فارغة، لا تحمل أي معنى، ولا تمتلك قوة الحسم ولا الجزم، لكنها ظلت مترسبة في الأدمغة الخاوية.
كلمات مطاطية بلهاء لا تفعل شيئاً، وتواقيع لا تشتعل ولا تساعد على الاشتعال، ولا تنفعل ولا تساعد على الانفعال. كلمات مُعادة تُختم بها طلباتنا وتختتم بها، وتُجير بها استماراتنا، ثم ينتهي بها المطاف في سلال المهملات.
أكداس من الملفات المعطلة، وأطنان من الكتب الرسمية المؤجلة، ورفوف فوقها رفوف تتشابك هرمياً وعشوائياً في سقوف الخزانات المتخمة بالأوراق والأضابير والكراريس، كلها تحمل بين طياتها ملايين التواقيع المُذيلة بعبارة (للتفضل بالاطلاع مع التقدير).
موظفون ومدراء التحقوا بالخدمة في عنفوان شبابهم، وانتهت خدماتهم بعد عمر طويل في محطات التقاعد. كانوا مهووسين بتقديس هذه الجملة غير المفيدة، حتى أدمنوا عليها، فتفننوا في كتابتها بكل الخطوط المسمارية والهيروغليفية والسنسكريتية، وحفروها بمعاول أقلامهم الآلية الجامدة.
ينتابنا شعور بالإحباط والإخفاق والفشل كلما لمحنا مفرداتها الباهتة، فنتذمر كثيراً من تسببها بتشويه حواشي خطاباتنا الرسمية، ونحزن كثيراً عندما نرى ظلالها الثقيلة ملتصقة فوق طلباتنا اليومية المرفوضة.
أنها جملة واحدة تتألف من بضعة كلمات مستفزة، ظلت تحوم في أروقة دوائرنا الحكومية منذ عقود وعقود، وكأن التأجيل والتسويف يُعبران عن رغبة قديمة في استبطان تعطيل نمونا الإداري المرتقب, أو يعكسان نوايا مدفونة تستهدف شل حركتنا الطبيعية المتحفزة نحو تحقيق المقاصد التطويرية المنشودة.
أحيانا نراها مترجمة بلغة التخلف الإداري، فيكتبونها هكذا: (لإجراء اللازم مع التقدير)، وغالباً ما يكبلونها بقيود الموانع الخراسانية، فيكتبونها هكذا: (إجراء اللازم وحسب الضوابط لطفاً).
لن تجد تكرار مثل هذه العبارة الببغائية في كوكب اليابان، ولا في المجموعة الأمريكية، ولا في المجرة الأوربية المتحررة من الروتين القاتل, فالأعمال تجري هناك بمرونة تامة، بموجب المخططات الانسيابية المرسومة سلفاً، وتُنجز على الوجه الأكمل في ضوء المعالجات التقويمية المبنية على القواعد المهنية الصحيحة.
ثم أن المدراء هناك لا يتسلقون أشجار المناصب العليا عن طريق القفزات الشمبازية الوصولية، ولا عن طريق التهافت والتكالب لخطف الفرص الانتهازية، ولا عن طريق الموالاة الحزبية، بل عن طريق التوصيف النوعي المستوفي لشروط المؤهلات الفردية الواعدة، فالشخص المناسب ينبغي أن يكون في المكان المناسب، وقرارات التفعيل الصائبة تصدر مباشرة من أصحاب الكفاءات والخبرات النادرة، ولا مجال هناك للمحاباة والمجاملات والولاءات.
للتفضل بالاطلاع مع التقدير