إصرار على النجاح

 

كلما حاولتُ الحديث عن موضوع معين مع شريكة حياتي أجد نفسي أقتبس منها عبارة أو كلمة أو فكرة. هي تتحدث معي بطريقة عفوية بَيْدَ أنني أنتبه الى كل كلماتها بحذر ودقة لدرجة أنها في بعض ألأحيان ترتاب من نظراتي وتسألني عن سبب تحديقي بها بتلك الطريقة الغريبة. شريكة حياتي تلك المخلوقة الرقيقة التي لاتعرف الغش أو الخداع مهما كانت نوايا الطرف ألآخر.

عاشت في بيئة صادقة لم تلوثها مصائب الزمن على الرغم من حالتها المادية المتوسطة منذ أن أبصرت النور في بيت أهلها. عشقتها منذ أن كنتُ في ألأول ألأبتدائي . كانت أشطر مني في كل الدروس تطمح أن تكون طبيبة لأنها تشعر أن مهنة الطب أرقى مهنة يتحلى بها الكائن البشري. ظل هذا الحلم يراودها منذ دراستها ألأبتدائية. حققت أعلى الدرجات على طول دراستها في الثانوية. كنتُ أعشقها وأخاف منها في نفس الوقت. كان خوفي ليس جسديا لكنه معنويا. دراستي كانت أدبية ودراستها علمية لهذا السبب كنت أشعر في عقلي الباطني أنها أرقى مني آلاف المرات. حاولت أن أتفوق عليها في شيء لايمكن أن تصل إليه مهما حصلت على درجات عليا في الكيمياء والرياضيات وبقية الدروس العلمية ألأخرى. سارعتُ الى جذب إنتباهها في شيء يتعلق بالنثر وكتابة رسائل العشق النارية. بدأت ألتهم كل الروايات العالمية المترجمة طيلة سنوات السبعينات والثمانينات كي أصل الى تسطير بعض الحروف التي لايمكن أن تصل الى تسطيرها مهما تفوقت علي في الرياضيات. كنتُ أرتعب من درس الرياضيات وكانت تبتسم بتهكم وتطلق علي بالفتى الكسول. تحفزت في داخلي أشياء من نوع آخر ورحت أتصارع مع كل جملة أدبية يمكن أن تهشم إمبراطوؤيتها العلمية في لحظة واحدة. لم تستطع الدخول الى كلية الطب لأسباب معقدة ودخلت كلية العلوم. كانت رسائلي النارية تصل إليها بأستمرار وشعرت أنني هشمت كل أسور إمبراطوريتيهما . وتزوجنا وصممت على أن تجعل ولدها يدخل كلية الطب لأنها لم تستطع هي أن تحقق هذا الهدف…وحققت هدفها. وطار الطبيب مع زوجته الطبيبة وعدنا نجلس وحيدان من جديد قرب المدفأة البسيطة في زمهرير الشتاء. دخلنا خريف العمر معاً وراحت أوراق ألأشجار تتساقط الواحدة تلو ألآخرى. كانت تعشق برامج التنمية البشرية بشكل لايصدق. تجلس ساعات طويلة أمام الحاسبة تلخص كل حلقة من حلقات تلك البرامج وتحفظ جزءأً منها عن ظهر قلب. وأنا أراقب ذبذبات لهيب المدفأة في يوم شديد البرودة أخبرتها بيأس مطلق أن الحياة لم يعد لها قيمة ألأولاد تركوننا وحيدين لاينظر أحدهما إلينا ..لاأحد يقدم لنا أي مساعدة مادية. الظروف في العراق أصبحت لاتطاق لدرجة أنني أشعر أن حركة الحياة أصبحت عقيمة.نظرت نحوي بأمتعاض ملحوظ وهي تقول ” ..ماهذه النظرة التشاؤمية؟ هناك أشياء مهمة في الحياة لازلنا نستطيع أن نمارسها حتى آخر لحظة من حياتنا. بالنسبة للأولاد …هذا شيء طبيعي لأنهم مشغولون ألآن بعائلاتهم وأعمالهم. أما فيما يتعلق بالمساعدات المادية  نحن لانحتاج إليهم بفضل الله. بالنسبة لي لازلت أعتبرهم أطفالاً في نظري وأنا اساعدهم ولاأريد منهم مساعدة. لقد أدينا واجبنا تجاههم ولم نقصر بأي شيء. هذه هي سنة الحياة وهم سيقومون بنفس الدور الذي قمنا به. أما فيما يتعلق بالنشاطات ألآخرى التي يمكن أن يؤديها ألأنسان ليست لها علاقة بعدد السنوات التي وصل إليها ذلك ألأنسان. يمكن أن تبدع وتحقق نجاحات مختلفة في ميادين مختلفة حينما تكون لديك الرغبة في تحقيق ذلك الشيء.

هنا يأتي دور ألأصرار والمثابرة والرغبة الحقيقة لتحقيق ذلك النجاح. يمكن ألآن أن تبدأ بمشروع ثقافي أو عملي حسب نوع الشيء الذي تريد تحقيقه. في النهاية ستحققه مهما كان صعباً لوجود ألأصرار الداخلي في كل عصب من أعصاب جسدك. إذا بقينا نفكر ليلاً ونهاراً بخطورة الصراع الطائفي وكيف سيحصد أرواح الكثيرون أو نفكر أن سد الموصل سينهار ويغرق الجميع أو أن العجز المالي سيجعلنا نصاب بالمجاعة وأشياء أخرى كثيرة…هذا معناه أننا نحفر قبورنا بأيدينا قبل ألأجل. حياتنا ومصائبنا مقرونة بأجل من الله وصدقني لن يحصل أي شيء إلا بمشيئة الله فلماذا نحطم أنفسنا بالتفكير قبل أن يحطمنا سد الموصل أو العجز المالي .

أمس كانت – أسراء- بنت الجيران وهي مواليد 1992 مهمومة وتشعر أنها وصلت عمر الخمسين لأنها تخرجت من قسم التاريخ بأمتياز ولم تقبل في الدراسات العليا لعدم وجود – واسطة- وتفكر كثيراً بسد الموصل وحالة العراق المزرية. أعتقد أنها ستصاب بمرض نفسي إن لم تتوقف عن هذا التفكير. عزيزي دع كل شيء للخالق ولن ينسانا الله سبحانة وتعالى. إخلق لك هدفاً مهما كان نوعة وعش من أجله وعندها ستكون أسعد إنسان صدقني. تركتني وراحت لتنام قرب المدفأة القديمة أفكر بكل كلمة قالتها …وخصوصاً عبارة ” ألأصرار على النجاح يؤدي الى النجاح” .