جمهورية رفحاء...صفحات من دفتر لاجئ عراقي في رفحاء السعودية .. حركة الدبابات الأمريكية وهديرها كان يذكّرنا كل لحظة بأننا قوم مهزومون حتى ونحن في أرضنا الحلقه الخامسه






الساعة الآن تشير إلى الواحدة ليلا، برد وجوع ومطر وروائح جثث متفسخة تملأ الهواء، ثم سخرية الشرطة والجنود منا، باعتبارنا شعبا مهزوما، ويمكن اضافة أسباب اخرى منها مثلا: عطل سياراتنا في الطريق إلى صفوان، حيث تتمركز قوات التحالف ومحطات التلفزة الغربية، و تلك النظرة الخبيثة في العيون الأمريكية، لقد شعرنا حقا بوحشة من نوع مؤذٍ اجتاحتْ نفوسنا، وراحتْ ترمضنا بعذاب هؤلاء وهم يفتشون بطاقاتنا الشخصية في شوارعنا! تفتيش تتخلله نظرة إستعلائية، نظرة المنتصر الى المهزوم!
العراقي يزوغ هنا وهناك- يتبول في عراء وطنه الذي فقد طهرانيته بالإحتلال الأجنبي-، يشبع فضوله مما يخص ترتيبات الجيش الأمريكي، أو يبصر الكارثة في الهواء الطلق، كأنه يبول على القيم التي تقوّضتْ صروحها في أعماق الإنسان، وعلى الشعارات المرفوعة باسمه، وباسم الحرية والعدالة وإرادة الشعوب، يبول على مصانع الأسلحة في عقل الإنسان، ويروح يتلفت يمنة ويسرة، نظرات وحسرات وحيرة وحقد مرير.
* * * * *
فندق صفوان
أخيرا وصل ركبنا إلى تلك المنطقة القلقة المجللة بالدم صفوان (4 )، قبضة التراب الأخيرة على حافة الوطن المنهوب، والمهروس تحت سرفات حاقدة لاترحم، قبضة التراب الأخيرة التي نسقط منها إلى فضاء الضياع والتشتت في القارات، حيث لاأرض تحسب موتانا وتضمنا إلى قلبها. تبعثرت على الأرض عربات عسكرية محطمة في كل مكان وخوذ لجنود فارّين، وهنا وهناك تخلط الرياح في هبوبها، إيصالات جمارك صفوان ببقايا حرب خاسرة : خراطيش مدافع - أسمال جنود ملطخة بالدماء - أكياس - ضمادات ميدان - روائح موتى -لهجة عراقيين - ورطانة عسكريين غربيين. بقي العراق كله وراء ظهورنا، بقي شميم الحدائق ودجلة والفرات وبغداد وأيامنا حلوها ومرها، بقيت شمسنا التي ياما ذهّبتْ حقولنا الخضراء، حركة الدبابات الأمريكية وهديرها كان يذكّرنا كل لحظة، بأننا قوم مهزومون حتى ونحن في أرضنا، وعلى ظهور الدبابات كان الجنود الأمريكيون لايفعلون في رواحهم ومجيئهم سوى حركتين مزعجتين :التصوير الفوتوغرافي ورسم علامة النصر ! بقي لنا من العراق فندق صفوان فقط، وكان مغلقا فافترشنا باحته الخارجية ومدخله وتناثرت الخيام حتى خارج سياجه، فيما تناثر قسم من الخيام في حقول الطماطم التي تشتهر بها ناحية سفوان!
المستشفى الميداني
في المستشفى الميداني الأمريكي بين ناحية سفوان وفندقها، كان الأطفال الهاربون من بطش النظام واللاجئون إلى قوات التحالف، يرون في المجندات والمجندين أشباه ملائكة، فقد تجمع الأطفال الجياع في المستشفى وكان بينهم اطفال من ناحية صفوان، طالبين شيئا ما يسد رمقهم. لاتقدر العين يومذاك أن تخطىء الشحوب والمسكنة على وجوه الصغار، واهنين ضعاف يمرحون ببراءة مع أعداء فرغوا للتو من ذبح إخوة لهم في مختلف المدن العراقية، هذا هو منطق الحرب جندي يقتل وآخر يوزع الطعام! وإذا كان الجنود والمجندات يئسوا تماما، في الساعات الأولى، من ضم الأطفال في صف واحد وتنظيمهم في طابور، فإنهم واصلوا عملهم بتوزيع الأكياس الأمريكية وقناني المياه السعودية، وسط زعيق الأطفال وصياحهم، وكان التوزيع يتم هكذا: يرسم الجنود علامة( x )بالقلم الأحمر على ظهور الأكف الصغيرة، طفلاً بعد طفل دلالة استلامهم حصتهم من الماء والغذاء، تلك الأكف التي حصد آباؤها وأجدادها من خيرات العراق أجيالاً متعاقبة، حين كانت بلاد مابين النهرين سلالاً تطفح بالخبز، ونفحات الأيمان والرضا والرخاء، لقد انمحى كل ذلك بلمح البصر ،غاضتْ مياه دجلة العذبة وحلتْ محلها قناني الواحات السعودية، وخيرات العراق احترقتْ وحلتْ محلها أكياس نايلون محشوة بغذاء باهت مداف بالذلّ والكراهية. على أية حال، لاحظتُ الأطفال يحتالون بفرح طفولي غامر على الجنود والمجندات، فيعمدون إلى حكِّ العلامة ( X ) بالماء، كل طفل يساعد زميله في حك العلامة، بعد الانتهاء من هذه العملية التي تستغرق وقتا، يستدير بخفة حول المستشفى دورة كاملة، معتقدين أنهم بالتفافهم ذاك إنما يموهون الجنود والمجندات، فلايراهم أحد، ويستلمون مرة أخرى حصصا اضافية!!.
وهكذا لبث الجنود والمجندات حيارى أمام مشهد مضحك: أكياس تتناقص وأطفال يتزايدون! في الجهة الثانية شكل الآباء طابوراً ، عجائز خاوون هدّهم الجوع والمرض يلتمسون بعض الأقراص، أو الحقن الطبية، بعدما أغلق المستوصف الصغير في صفوان أبوابه لإنعدام الأدوية تماما. لكن الآباء كانوا أكثر تحسباً لنظرات الفضول الأمريكية وكاميرات الصحافة الغربية من أبنائهم ، لذلك تراهم يأخذون وجباتهم إلى بيوتهم ويتناولوها هناك.
سكان صفوان الطيبون
اختلطت أفواجنا، افواج النازحين ، بما تبقى من سكان صفوان، تعرفنا اليهم وتعرفوا إلينا وانعقدت بيننا أواصر صداقة، لاسيما مع مزارعي حقول الطماطم، ولما كانت نفوسنا تعاف الأكياس ومحتوياتها، فقد كنا نذهب خلال النهار إلى حقول المدينة الزراعية المنتشرة حولها ( أكثر ما تشتهر به ناحية صفوان هو حقول الطماطة، حيث يغطي إنتاجها المنطقة الجنوبية كلها تقريبا، وكانت قوات التحالف زرعتْ عدداً منها بالألغام وحذّرونا منها )، كنا نشتري الخضروات ( بما تبقى لدينا من العملة العراقية التي أصبحت بلا قيمة)، ونطبخ طعامنا في مواقد مرتجلة - نشعل فيها أغصان الأشجار اليابسة وأغلفة صناديق الأكياس الأمريكية-، وكان ذلك بعدما استحكمتْ فينا حالات المغص المعوي والإسهال صغاراً وكبارا، حتى كأن أجسامنا ترفض إلا الطعام الذي تجود به أرضنا.
نازحون وبدون
اقام النازحون في مدخل فندق صفوان وماحوله، بنوا خياماً من البطانيات دعموها بالقطع الخشبية، وكان الفندق يومئذ مهجوراً غطتْ باحته الأمامية الأوساخ وفصيل من الجنود الأمريكيين، من جانبها تولت القوات المسلحة الأمريكية أمر حماية اللاجئين وإطعامهم ، وكان لابد من وجود مترجمين لتسهيل إدارة المخيم المؤقت. لم يكن الأمر صعباً على الإطلاق، إذ كان بيننا خريجو جامعات وغيرهم من حملة الشهادات العالية في الهندسة والطب، ناهيك بوجود مثقفين ومهتمين باللغات ومن بينها اللغة الانكليزية.
كان النازحون آلافا وقد ازدادت أعدادهم بما انضم إليهم من (البدون) وكانوا بضعة مئات، وهؤلاء كويتيون ذوو أصول عراقية ألقتْ بهم عاصفة الصحراء في صفوان وتخلتْ عنهم الحكومة الكويتية. أمضى هؤلاء أسابيع صعبة فعلاً (لا أدري ماذا حل بهم بعد نقلنا إلى مخيم رفحاء؟! )، فلا الحكومة الكويتية تقبل بعودتهم إلى الكويت باعتبار أن أصولهم عراقية، والعراق قام بغزو الكويت وطُرد منها طرداً مؤذياً، ولا الطاغية صدام يقبل بهم لأنهم جزء لايتجزأ من الكويت المسلوبة منه رغماً عن أنفه. التعذيب