جمهورية رفحاء .. صفحات من دفتر لاجئ عراقي في رفحاء السعودية .. ما حقيقة "المحاكم" التي نصبها البعض في مخيّم صفوان؟ الحلقه السادسه




رأيت فضائع في مخيم سفوان لايمكنني نسيانها ، فقد أقام عدد من الشباب الشيعة المتعصبين محاكم ارتجالية في أول فرصة سنحت لهم ، وهي فرصة غياب القانون وبروز حالات من الثأر وتصفية الحساب مع الآخرين، وكانت التهم جاهزة ومضحكة أحيانا: العمل لصالح المخابرات العراقية !!، الغريب أن السلطات السعودية في المخيم كانت تقول للاجئين: انتم جميعا تعملون لصالح المخابرات!، وكان السعوديون فيما بعد، أي عندما يعيدون لاجئا إلى المخفر الحدودي العراقي، يقولون لمستلميه من المخابرات العراقية، بأن اللاجئ المعاد قسرا ينتمي إلى حزب الدعوة!
وعودة إلى الفظائع التي ارتكبتْ في مخيم صفوان، فقد استغل عدد من الشباب الشيعة المتعصبين، سرداب الفندق للتعذيب وانتزاع الاعترافات من المشكوك فيهم، وهم أبرياء في مجملهم، أذكر أن أحد العراقيين الشباب من أهالي الكاظمية كان مقيما في الكويت سنين طويلة، وطرد مع من طرد من العراقيين حتى وصل ذات مساء الى خيامنا في صفوان، وكان حظه سيئاً حيث نصبت له محكمة في خيمة بعيدة عن الأنظار خارج سياج الفندق، وافترسه الشباب المذكورون وكان يخجل من الرؤية إلى وجوه اللاجئين مرتين: مرة لأنه متهم بالعمل لصالح المخابرات، وأخرى لأن وجهه كان مغطى بالكدمات والرضوض، ولم يكتفِ معذبوه بذلك بل زادوا على بغيهم بغيا، فجعلوا منه خادماً يقوم بتنظيف الخيمة !!، ويجلب لهم الأرزاق اليومية، وما إلى ذلك من الأمور الخدمية، وفي نهاية الأمر أخذوه معهم أسيرا إلى إيران! اضافة إلى سرداب الفندق فقد استغل عدد آخر من الشيعة المتعصبين، مواضع الجيش العراقي المهجورة أماكن للتعذيب، وتقع تلك المواضع خارج سياج الفندق بعدما علاها غبار الهزيمة! ذات ليلة وأثناء تجوالي خارج سياج الفندق، رأيتُ بصيص ضوء وسمعتُ أنينا خافتا فاتجهت اليه في الحال، وما أن اقتربتُ قليلا حتى رأيتُ أحد الذين تم تعذيبهم مسجى بباب أحد المواضع، ورأيت عدداً من الملتحين كانوا فرغوا للتو من نوبة تعذيب في الموضع، كان وجه الشاب مملوءا بالكدمات الزرق حول عينيه المنتفختين، ورأيت دشداشته الممزقة والكدمات تملأ جسمه كله، وأذكر جيدا أنني بالكاد سمعت صوته الواهن المملوء بالتوسل والذلّ يقول: ولكم آنه اخوكم عراقي دخيلكم ودخيل الله!! لكن أحدا لم يلتفت إلى نداءاته التي ذهبت أدراج الرياح، ومعها ذهب (الجاه والوجه) وتوسلاتي بإطلاق سراحه!.
الواد كازم واد طيب وبن حلال!
شاركنا الإقامة المؤقتة في مخيم صفوان بضعة مئات من العمال المصريين، في انتظار تسفيرهم إلى بلدهم عبر الأراضي الكويتية، وكان هؤلاء العمال أمضوا سنوات من العمل في العراق لكنهم قرروا مغادرته نهائياً، بعدما انخفضت قيمة الدينار العراقي إلى أدنى مستوياته، وكذلك بسبب اندلاع الإنتفاضة، لاحظت أن أولئك العمال جمعوا أمتعة وقطعاً من الذهب والأموال، وتذكرت أن ليس معي حينما غادرت وطني نهائياً، سوى دينار وربع الدينار وهوية الأحوال المدنية العراقية!.
وبما أننا أصبحنا لاجئين حتى قبل أن نغادر وطننا، فقد عرض بعض من هؤلاء العمال البسطاء – بطيبة قلب متناهية- على البعض منا، فكرة مرافقتهم إلى بلادهم، فقد اختار كل واحد منهم جيرانه ومن ترتاح له نفسه من العراقيين، وفعلا صدق البعض من العراقيين تلك الفكرة واستحسنوها بل وتشبثوا بها، على أي حال فقد كانت الأوضاع أيامذاك قابلة لأية فكرة جوهرها الخلاص.
- بقه أنا حاتكلم مع السيد السفير المصري لما ييكَي سفوان بإذن الله!
- شراح تكَلّهْ؟!
- حقوللّو إنِّ الواد (كازم) واد طيب وبن حلال، هو ميحبش صدام بالمرة، وانه عايز آخدو معاي مصر!
مجاهدو خلق وأفغان
بين نازحي مخيمن في صفوان خمسة رجال من منظمة مجاهدين خلق الإيرانية المعارضة، وكان الأمر مدعاة للإستغراب ان يكون بيننا أولئك، كما أنه لاأحد يدري على وجه الدقة من أين جاؤوا وكيف وصلوا إلى صفوان، ذلك أنهم ظلوا صامتين ومنعزلين ولايختلطون بنا طوال أسابيع، ولاعلم لي بماحل بهم بعد نقلنا إلى مخيم رفحاء.
وكذلك نحو( 500 ) لاجئ أفغاني ممن أقاموا في مدن العتبات المقدسة، لاسيما في النجف وكربلاء وعملوا هناك، وبينهم طلاب درسوا في الحوزة العلمية في النجف الأشرف.
طلاب الحوزة العلمية
لأول مرة في حياتي أرى أحد أفراد عائلة الحكيم، شاب وسيم طرّ شاربه للتو، دمث الأخلاق هادىء، الأسابيع القليلة التي قضاها في صفوان أمضاها في خيمة كبيرة مع مجموعة صغيرة من زملائه النازحين معه، من طلاب الحوزة العلمية، وقد اصطحب هؤلاء عوائلهم وكتباً دينية وفتاوى وأحلاما بزوال النظام، وإقامة دولة الإسلام والعدل والمساواة بين العراقيين، كما لاحظت أن الظروف الصعبة في صفوان، لم تمنعهم من تشكيل حوزة علمية مصغرة، كانوا يصلون ويقرأون ويتجادلون وعندما يشكل عليهم أمر من أمور الدين، يلجأون إلى شمس، وشمس هذا مجتهد إيراني يبلغ حوالي الستين من العمر نزح معهم من النجف أيضاً، وأذكر في تلك الأيام أن الطلاب الشباب أنشأوا حلقات لتدريس المذهب الشيعي واللغة العربية وغيرها. من بين طلاب الحوزة تعرفتُ إلى شاب درس السطوح الأولى من مُقرَّرها، وكان انتمى وهو فيها إلى إحدى الخلايا السرية للعمل ضد النظام، أذكر أنه كان مشتعلاً حماساً للمذهب الشيعي، وقد شهدتْ حقول الطماطم المحيطة بمدينة صفوان نقاشات مفتوحة بيننا، بلا قيود ولاخوف من أُذن تصغي أو يدٍ تكتب تقريراً، لأول مرة على أرض الوطن وفي الهواء الطلق، حوارات بين من يجعل وطنه في المرتبة الثانية بعد مذهبه، وشاعر يائس وساخط بسبب تدمير أعز مايملك وهو العراق، وهاهو يخرج منه مفلساً من كل شيء، بخراب لاطائل تحته، ودينار وربع وهوية الأحوال المدنية، لكن على أية حال فقد وحّد بيننا حادث مفاجىء في أحد الأيام الصفوانية، جعلنا نفطن إلى أننا عراقيان نحب وطننا كثيرا، مهما اختلفت آراؤنا واتجاهاتنا، فقد انفجر لغم من ألغام حقول الطماطم تحت قدم شاب من مدينة البصرة، بعد ظهر أحد الأيام، مات الشاب بعد قليل، وبقي بكاء شقيقه الذي كان معه ونجا بإعجوبة يترجّع في ذاكرتي حتى هذا اليوم.
كاميرات .. كاميرات
فيما كان الجنود الأمريكيون يديرون مخيم صفوان ويطعمونه، راحت كاميرات التلفزيون الغربية تدور على وجوهنا المتعبة المتربة، تستجدي لقاءات تلفزيونية لتغطية ذيول عاصفة الصحراء، لا لإبراز الوجه البشع للحرب بعد قتل العراقيين وهدم بلدهم قيماً واقتصاداً ومستقبلاً، بل لإبراز (الوجه الإنساني للجندي الأمريكي!)، كيف لا وقد هيأوا للنازحين الطعام والحماية، يذبحون مئات الآلاف وتقوم كاميراتهم المنافقة بالتقاط أذكى الصور من زوايا مختلفة، لبضعة آلاف نجو من المجزرة، لقطات طويلة انهمك في تسجيلها مصورو حروب ماهرون ، أحاديث مع جنود يطعمون أطفالاً حفاة شاحبي الوجوه ويداعبونهم، زوايا تصوير يتم اختيارها بدقة تدخل فيها المدرعة أو الدبابة عنصرا رئيسا، ليكتمل المشهد الصحفي من قلب الحدث!