العجوز والبقرة

 

حينما ينظر ألأنسان الى بعض الصور القريبة من مكان وجوده في بقعة من هذا الكوكب ويقارنها مع صور من حياته يجد أنه يحيا حياة تقترب من حياة الملوك مقارنة مع تلك الصور التي تمت المقارنة معها. الحياة مليئة بالصور البهيجة والمأساوية وتكون الصور البهيجة بهيجة حينما يكون ألأنسان مبتهج يتربع على عرش الصحة ولديه أحباء ولايشكو العوز المادي. هو يعيش في صور مفرحة بهيجة طالما أن أنفاسهُ ترتفع وتهبط علامة الحياة , وتكون الصور مأساوية حينما يعيش ألأنسان ضمن دائرة مغلقة من الحياة – والدائرة المغلقة- هنا ترمز الى أشياء لاتعد ولاتحصى كلها تدخل ضمن العوامل المنغصة لسعادة ألأنسان وبذلك نطلق عليه أنه – تعيس – وتسيطر عليه حالات مأساوية كثيرة. من الصور المأساوية التي وقعت عليها نظراتي وأنا أقضي عدة أيام في – القرية البعيدة- هي صورة العجوز الطيبة القلب – أم شاكر- التي حطت عصا ترحالها على السبعين من العمر. هربت مع بقرتها الوحيدة من منطقة ألأشتعال وفرت مع الفارين البؤساء نحو الحياة الى مناطق متعددة من هذا البلد الكبير. تعيش هذه العجوز بالقرب من السياج الخارجي لبيت صديق الطفولة – أبو أمجد. وأنا أجلس في وسط الحديقة العملاقة لبيت صديقي في يوم مشمس , جاءت من الطرف ألآخر للحديقة تدب على ألأرض كأنها مخلوق شارف على ألأنتهاء. جلست على ألأرض بعد أن ألقت علي تحية ألأسلام الرائعة. راحت تحدثني عن سنة كاملة من الفراق عن بناتها وأولادها الذين توزعوا في مناطق مختلفة من القرية التي كنتُ عليها ضيفاً في بيت صديق طفولتي أبو أمجد.

 

قالت وهي تداعب غصن شجرة صغير كانت الرياح قد مزقته قبل فترة قصيرة من الزمن ” ..أشتقتُ الى بيتنا..ألى أرضنا..الى كل شيء هناك. متى نعود الى أرضنا الجميلة؟أشعر أنني أختنق من هذا الفراق وهذه الحياة المشتتة في كل ألأتجاهات. لاأستطيع العيش مع ولدي الوحيد… لديهِ غرفة واحدة مزدحمة بألأطفال من مختلف ألأمار. بناتي توزعن على بقية العوائل في هذه القرية مع أزواجهن. أبو أمجد هذا الرجل الطيب شيد لي غرفة بمساعدة أبنائه قرب سياج البيت. إشترى لي ثلاجة ومبردة وطباخ صغير. الحمد لله لأنني جلبت معي بقرتي الوحيدة. هي كل حياتي هنا. لولا هذه البقرة لما إستطعت العيش هنا لوحدي. حينما تشتد الرياح تبدأ البقرة بالصراخ وهي تنظر إلي بطريقة مرعبة كأنها تتوسل إليَّ أن لا أتركها وحيدة تواجه هذا المصير المخيف تحت زئير الرياح الغاضبة. تنظر في عينيّ كأنها تتحدث إلي بلغة لايفهما أي مخلوق بشري عداي. ” أصرخ بصوت مرتعش مع صوت الرياح …لاتخافي أنا هنا أتدثر قرب الجدار . أنا وحيدة مثلك. بعد كل هذه السنوات وهذا العمر المشبع بحكايات لاتنتهي ..أنا مثلك وحيدة..بلا أبناء..بلا بنات..بلا زوج..أنا وأنتِ ننتظربهدوء على قائمة إنتظار الموت.” تهدأ البقرة وتجلس على ألأرض كأنها طفل رضيع . إستمرت العجوز تتحدث معي بصوت هامس كأنها تحدث ذاتها ” ..شيء مرعب أن يهجر ألأنسان بيته..الرعاية ألأجتماعية تدفع لي مبلغ زهيد كل ثلاثة أشهر لايكاد يسد رمق طفل في العاشرة من عمرة .إشتريت قنينة غاز ب75 الف دينار لازلت أدفع أقساطها مذ سنة دون أن أتمكن من تسديد بقية المبلغ.” . نهضت وهي تتمنى لي سفرة سعيدة في بيت – هذا الرجل الطيب- وهي تشير بيدها الى بوابة الدار. عادت كأنها نسمة هواء رائعة جعلت كل ذرة من ذرات قلبي تميل مع كل كلمة كانت قد تركتها في روحي. لاأعرف هل ستعود يوماً ما مع المهجرين قسراَ في أرض بلادي أم ستبقى تناجي بقرتها كلما هبت عاصفة ريح شديد وتقول لها ” لاتخافي أنا هنا قربك عند الجدار” ؟؟