آهات ضفاف الفرات

 

حينما أشرقت الشمس على قمم ألأشجار في صباح يوم ربيعي جميل راحت – نور- التي تجاوزت العشرين بعدة سنوات تستحث شقيقها – أمجد- للنهوض من النوم عند الصباح الباكر ليصطحباني الى ضفاف الفرات عند بزوغ الشمس. عرفتْ أنني أعشق الفجر وشمسه حينما تغسل قمم ألأشجار عند الصباح الباكر. هي بعمر إبنتي الصغيرة وشقيقها أصغر منها بسنة أو أكثر بقليل. كلاهما متخرجان من جامعات راقية لكن القدر قذف بهما في هذا الزمن الملبد بغيوم الخوف والغش والحقد والدمار في الليل والنهار. راحت نور وشقيقها أمجد يسحبان الغطاء عن جسدي المنهك كجثة ترفض النهوض من رقدتها ألأخيرة. ” ..إنهض عمو..ألم تطلب مني ومن أمجد أن نرافقك الى ضفاف الفرات؟؟” . كانت العلاقة بيني وبينهما من أجمل العلاقات التي رسمها تاريخ العلاقات ألأنسانية منذ نشوء حضارات العراق ماقبل التاريخ. لم أتوقع أنني سأتعلق بهما الى هذه الدرجة. هما ينتميان الى قريتي البعيدة التي شاهدتُ فيها أول بذرة من بذرات الحياة. لم أتوقع يوما ما أن تكون هذه الفتاة الجميلة وهذا الفتى الرائع ملازمان لي ليلاً ونهاراً. كان والدهما صديق طفولتي. لم أكن أتوقع أنهما يندمجان معي في حوارات وسجالات لاتنتهي عن الحياة في كل مبادئها وحيثياتها . كانت نور تتحرك هنا وهناك بنشاط كبير كأنها فراشة تبحث عن الرحيق في جميع ألأزهار. جلسنا عند حافة النهر الكبير . إلتقطنا عشرات الصور لقرص الشمس الذهبي. تمنيت لأحمد أن يعثر على أفضل عروس في تاريخ العلاقات ألأنسانية. كان يضحك كطفل مدلل ويصرخ ” لن أتزوج إلا بعد أن أسافر الى خارج العراق وأحصل على إختصاص جيد” . كانت نور تتحسر وتتمنى أن تحصل على وظيفة في أي بقعة من بقاع ألأرض في هذا البلد. كانت تشعر أن وجودها في هذا البلد لم يكن مجدياً أبداً. كلما تذكرت ساعات الدراسة الطويلة وليالي الشتاء الباردة وهي تطالع دروسها بجد..تشعر أنها أهدرت كل تلك الساعات في الفراغ. حاولتُ عدة مرات أن أبعث في روحها بصيصاً من ألأمل وأن التغيير قادم لامحالة  تضحك بسخرية وتهكم وتصر على أن الدمار حل بالعراق وأن كل الحلول التي تجري هنا وهناك ماهي إلا مخدر بسيط لايلبث أن يزول عند فترة وجيزة ويعود الجسد يتألم من جراحاته الكثيرة. كنتُ أنظر في عينيها الصافيتين وأشاهد آلاماً وأحزاناً لاتنتهي على الرغم من ألأبتسامة التي لاتفارق وجهها أبداً. قالت لي مرة ” ..أخشى أن أتزوج رجلاً أعرج ستكون كارثة بالنسبةِ لي ” . وراحت تضحك بصوتٍ جميل. ” …أعرج؟ ولماذا أعرج؟” . سألتها بجدية . راحت تشرح لي بطريقة ذكية من أن العراق من شماله الى جنوبه أصبح أعرج معاقا وتخاف أن قسمتها رجلاً أعرج. كانت تقصد معنى آخر غير المعنى الحرفي لكلمة – أعرج-. لاأعرف لماذا كانت تراودها مثل هذه ألأفكار الغريبة؟ حينما كنا نتناول الفطور الصباحي معاً  كنتُ ساهماً كأنني أحلق في خيالٍ لاينتهي. كان أمجد يراقبني بدقة. سألني عن سبب ذلك الصمت الكبير على نقيض أغلب اللحظات التي كنا نتناول فيها أي طعام. ” ..عمو ..هذه أول مرة أراكَ فيها صامتاً وكأن شيئاً ما يجول في ذهنك؟” نظرتُ في عينيه وقلت ” أمجد ..

ماذا سيكون شعورك إذا تزوجت فتاة عرجاء؟” . صرخ أمجد ” أعوذ بالله ..عرجاء ؟ ولماذا عرجاء؟” .

صرخت نور وهي تضحك بأعلى صوتها ” نعم عرجاء..ماذا سيكون شعورك وأنت تعيش مع فتاة عرجاء؟ صمت أمجد قليلاً بعدها أردف قائلا..ربما هي عرجاء من الناحية الجسدية لكنها متزنة في كل شيء. من يدري ربما يكون ذلك في صالحي كل شيء مقدر ومكتوب. يوجد في بلدي عشرات ألأصحاء جسدياً لكن كل تصرفاتهم عرجاء…يسرقون ويغشون ويقتلون ويمارسون أعمالاً بشعة ليست لها علاقة بحب ألأنسان أو الوطن كل هؤلاء بنظري مرضى من الدرجىة ألأولى وجميع سلوكياتهم عرجاء.

ظلت نور تحـــدق في وجه أمجد عدة لحظات بصورة جدية وكأنـــهاغابت في تاريخ أعرج ينتمي الى هذا البلد منذ زمن التغيير حتى هذه اللحظة.