العراق.. هل يعود التوافق السياسي أم يستمر العصيان المدني؟


منذ عام 2003 وإلى الآن، تقاسم العراقيون السلطة على أساس توافقي يضمن للمكونات السياسية والمذهبية والقومية من خلال ممثليها تواجدها في السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية. هذا التقاسم للسلطة لم يشمل المناصب العليا فقط؛ بل امتد إلى الموظفين العموميين العاديين، مما شكل "كانتونات" مؤسسية لها انتماءات فئوية، تفرض سيطرتها على المؤسسات الرسمية وتمرر "أجندتها" السياسية والاجتماعية تحت عباءة "التوافق السياسي".

هذا النوع من "الحكم التوافقي" للمكونات الاجتماعية، أو تحت مسمى "المكونات الاجتماعية" أدى من الناحية العملية إلى ضياع حقوق المكونات الاجتماعية، نفسها وارسي نهج الطائفية والعنصرية وهدم مبدأ المواطنة والمساواة والعدالة الاجتماعية. وقد صاحبه هدر كبير للمال العام، تارة نتيجة سوء استخدام السلطة وتجاوز القوانين، وتارة أخرى بسبب شيوع ظاهرة الفساد والمحاباة والرشا في أوساط الطبقات السياسية الحاكمة، مما جعل جميع تقارير منظمة الشفافية الدولية، ومنذ عام 2003، ولحد الآن، تعطي لمؤشر مدركات الفساد في العراق نسب عالية جدا. وكان في العام 2005 الاسوء عربيا، ومن المؤكدً وبموجب الجدول الأسوء عالميا.

كان من المنطقي أن تجد هذه السياسات "الانتهازية" التي تمثل أصحابها أكثر مما تمثل انتماءاتها السياسية أو القومية أو الدينية، ردة فعل من المواطنين العراقيين في أوقات مختلفة وظروف مختلفة، وأماكن مختلفة. نعم، ربما اختلفت محافظات الرافضين، وربما اختلفت شخوصهم، وربما توسعت مطالبهم أو ضاقت، ولكنها في مجملها كانت تعبر عن "مقاومة لاعنفية" الا ما ندر، لإدارات السلطة العراقية وشخوصها مع اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم. هذا الرفض المتصاعد امتد على مساحات واسعة من الأراضي العراقية، ولم يعد يقتصر على العاصمة الاتحادية "بغداد" بل شمل عاصمة الإقليم الشمالي "اربيل" كما شمل المحافظين ومجالس المحافظات والاقضية والنواحي في المحافظات غير المنتظمة في إقليم.

كان من المنطقي أيضا أن يفكر من يقود دفة الحكم في المستويات الثلاثة، ألف مرة ومرة، فيما يحدث أو يمكن أن يحدث فيما لو أصر على إدارة ظهره وتجاهل مطالب "الإصلاحيين" حتى النهاية. ولكن إصرار القيادة السياسية في البلد على التقليل من شأن تلك المطالب والتعامل معها بانتقائية، ووضع تصورات لها وفي الحدود التي يمكن أن لا تتخطاها المظاهرات كونها محكومة بمحددات، والتعويل على تحميل الآخرين، سواء كانوا شركاء حاليين أو سابقين مسؤولية ما يحدث، كان وراء الوصول إلى "أسوء إدارة" في تاريخ العراق الحديث من طرف، وأوسع ظاهرة احتاج اجتماعية من طرف آخر.

الآن، بعد دخول المتظاهرين المنطقة الخضراء، واقتحام مبنى مجلس النواب، والجلوس في قاعاته، وضرب بعض أعضاءه وموظفيه، ومحاصرة آخرين بـ"تنسيق" غير معلن مع قوى أمن حماية المنطقة كما يزعم، ومع احتمال توسع رقة "الاقتحامات" لتشمل مباني المؤسسات والدوائر العراقية المالية والأمنية داخل الخضراء أو خارجها دون إعلان رسمي من جهة سياسية بتبني هذه "الاقتحامات" يجعل العملية السياسية على شفا حفرة، بل يجعل العراق برمته في مهب الريح بالخصوص أن الحرب مع تنظيم "داعش" مازالت في مراحلها الأولى.

لا يجب التشكيك بنوايا القائمين على الإصلاح ولا في حركة المتظاهرين، ففي كل الأحوال ليست مطالبهم مطالب فئوية أو حزبية، إنما هي مطالب لشرائح اجتماعية واسعة إن لم تكن تعبر عن المجتمع العراقي كله. ولكن لم تجد تلك المطالب في مراحلها الأولى قبل دخول مبنى مجلس النواب آذانا صاغية لدى السلطات الحاكمة، إنما التسويف والمماطلة بحجة اللاقدرة على الإصلاح الكلي ووجود الضغوط السياسية التي تمارسها الكتل المتنفذة لحرف المطالب عن أهدافها المقررة، وإن أيدها بعضهم أو دعمها في الظاهر.

مع ذلك لا يجب أن نكون متفائلين أكثر من اللازم، ولا يجب أن نغفل أن عدم الاستجابة السريعة لمطالب المتظاهرين من جهة، وعدم قدرة الداعمين "للانتفاضة الشعبية" على ضبطها وتنظيمها قد يؤدي إلى الاعتداء على أرواح المواطنين والممتلكات العامة والخاصة، وقد يؤدي إلى إشاعة الفوضى مجددا ويقضي على ما تبقى من هياكل للسلطات الثلاثة ويختلط الحابل بالنبال.

ولاشك أن نجاح الحركة الإصلاحية في تحقيق أهدافها، لا يأتي عبر خلق الفوضى، كما أن إصرار "الحكوميين" على تجاهل تلك المطالب لن يكون سببا في توقف المتظاهرين والمعتصمين عن المطالبة بحقوقهم في سلطة إصلاحية توفر لهم الأمن والاقتصاد السليم والسياسية الحكيمة، لان مسيرة الفوضى ومسيرة التجاهل لا يؤديان الا إلى المزيد من العنف والعنف المضاد. وبالتالي، من الضروري، أن يعمل الجميع على:

1- أن يستمر الحوار بين السلطات وبين "المعتصمين" وألا يتوقف وألا يتم تجاهله، وأن يستهدف هذا الحوار البناء جر المجتمع كله من مسئولين ومواطنين إلى التفاهم المشترك، ذلك أن استمرار الحوار يعني استمرار حركة الإصلاح في تحقيق أهدافها وازدياد قوتها، وفي توقف الحوار تعزيز للفوضى وهدم للنظام برمته وهو ما لا يرتضيه الجميع.

2- وعلى دعاة الحركة الإصلاحية ونشطائها أن يعوا أن عدم التهيب من السلطة يجب ألا يؤدي إلى قطع الحوار، نتيجة الحماس في دفع المقاومة إلى الأمام بشكل غير مدروس. أما إذا كان الخصم هو البادئ في قطع الحوار -لأسباب تكتيكية- فسيزيد ذلك من إمكانية خلق حوار مباشر بين مجموعة النشطاء من جهة وبين المواطنين من جهة أخرى. وهذا التطور هو الشائع في حركة "المقاومة اللاعنفية". إذا عادة ما تبدأ المقاومة بشكل تدريجي، وقد شبه غاندي هذه العملية بارتقاء درجات السلم، ففي مسيرة الملح الشهيرة عندما كسر الهنود قانون الاستعمار البريطاني وبدأوا يستخلصون الملح من البحر سأل أحد الصحفيين غاندي ماذا سيفعل لو لم تستجب السلطات.. فأجاب: "عندئذ سأُصُعِّدْ الحملة". وذلك حتى يستمر الحوار بين المقاومة والنظام. والحوار هنا لا يعني فقط الكلام، وإنما يعني الرسائل المتبادلة عبر الأنشطة وردود الأفعال عليها.

3- وإذا كان لابد من الحوار بين الطرفين؛ لأنه السبيل الوحيد الذي يحفظ الدولة وهيبتها، فانه لابد أن ينتهي الحوار بين الإصلاحيين والقابضين على السلطة إلى تشكيل حكومة مرضية للطرفين، دورها قيادة الانتقال من الفساد إلى الإصلاح والصلاح، ومن اللاعمل إلى العمل، ومن اللامحاسبة إلى المحاسبة، ومن اللابناء إلى البناء، مع استمرار استجلاب دعم الشعب للحكومة المرضية من كل الأطراف، والدعم الشعبي لا يعني المباركة والتأييد فحسب، وإنما العمل الجاد لبناء المجتمع القوي الذي يملك المؤسسات القادرة على دعم برنامج الحكومة. ودور الحكومة في هذه الفترة هو توفير التسهيلات اللازمة لقيام تلك المؤسسات.

4- وهنا لابد من التركيز على أن النشاط الإصلاحي الذي يمثله المعتصمون يهدف إلى فتح حوار مع الخصم وإقناعه بضرورة الاستجابة لمطالب المجتمع لا السيطرة عليه وقمعه، وأن الحاكم خادم للمجتمع يقوم بتنفيذ إرادته لا العمل على استعباده، فإذا اقتنع النظام بذلك تحاور معه ممثلو المجتمع من أحزاب وجماعات ضغط للحصول على مكاسب حقيقية للمجتمع وليس للحركة أو الحزب، وإن امتنع عن الحوار أو رفض المطالب الشعبية استعرض المجتمع قوته الحقيقية ونشاطه الذي لا يوقفه فرد أو مجموعة أفراد في سدة الحكم.