ثقافة الشاعر الشعبي وقميص الحداثة .. عدنان الفضلي

القراءة والاطلاع على تجارب الآخرين في مختلف ميادين الأدب والثقافة والفلسفة وبعض العلوم سلاح يجب على الشاعر التسلح به قبل الشروع في تقديم منجزه الابداعي، فرسم الصورة الشعرية ليس شرطاً وحيداً لتقديم النص على انه نص مكتمل، كون الصورة عاملا ينتج على أسس رؤيوية منبعها العاطفة وحدها فيما المنجز اذا ما طرح ليكون رسالة فلا بد ان يحمل في طياته كثيرا من العمق الفلسفي الايصالي ليكون بمستوى الرسالة المراد توصيلها.
هذا الموضوع فات قليلا من شعراء الفصحى وكثير من الشعراء الشعبيين، فهؤلاء وان كانوا قد قدموا نماذجهم الشعرية الا انها بقيت نماذج فطرية او منسوخة من تجارب أسلافهم من الشعراء، ومن يتابع المشهد الشعري الشعبي اليوم يصطدم بحقائق كثيرة تؤكد ان اغلب الشعراء الشعبيين اليوم يقدمون منجزاً شعرياً يخلو من (الدسّ) الفلسفي في عمق المتن، ويعتمدون على الهامش (الزمكاني) في ايصال نصهم للجمهور البسيط، ولذلك فهم وحين يصطدمون بجمهور النخبة تراهم وقد اختنق فيهم ممر الايصال حين يصير هناك نقاش رؤيوي يردهم عبر ردة فعل الجمهور النخبوي، فالمتلقي البسيط يمكن خداعه بالصور الغرائبية المعتمدة على التلاعب في اللغة، بينما المتلقي الواعي، لا يمكن تمرير ذلك التلاعب عليه ما لم يكن معززاً بفلسفة مأخوذة من الواقع، وبالتالي فان خسارة الشاعر الشعبي ستكون كبيرة فيما لو اعتمد فقط على الجمهور البسيط في مسألة التلقي.
قد ينبري احد الشعراء الشعبيين ليسأل عن كيفية حدوث تلك الخسارة، وهنا يأتي الجواب من عمق السؤال، كون الذي يسأل هنا فاته انه بسؤاله هذا أكد انه لم ينتبه لقضية الخسارة الأهم وهي كيفية الاجابة على اسئلة تأتي احياناً مبهمة وغير واضحة، فلو افترضنا ان شاعراً شعبياً ما، كان وسط طاولة مستديرة لتفكيك نصه الذي يقدمه وجاءه سؤال مباغت عن المعنى المفترض لمقطع شعري قابل لأكثر من تأويل، فهل ان غلافه الثقافي المعرفي سيسعفه في تحاشي الوقوع في مطبّ الرد على تأويل يسمح بأن يعرّض الشاعر المجيب للسخرية ؟ أم ان الواقع يقول انه لا بد من توظيف معرفي يختلف عن ما يحمله الغلاف من نسبة ضئيلة من المعرفة.
ورب سائل آخر قد يستشهد بشعراء فطريين كتبوا القصيدة ونجحوا فيها أيما نجاح، من دون ان يحتاجوا الى التسلح بالثقافة والفلسفة، وهنا نقول انه اليوم وبعد ان ارتدى أغلب شعراء الجيل الحالي، قميص الحداثة وقدموا انفسهم على انهم محدثون في مجال كتابة النص الشعري الحديث فعليهم ان يتناسوا تماماً فطرية أسلافهم الذين كان لهم معينهم المعرفي المكتسب من الموروث والاسطورة والبيئة وبعض الايديولوجيات السياسية، فاولئك كانوا بتماه تام مع ماهو متواجد في المشهد الأدبي الموروث سواء كان سردياً حكائياً، او شعرياً مروياً، مع استثناء نماذج منهم كانوا يمتلكون من الوعي والمعرفة ما سمح لهم بتعاطي الفلسفة الشعرية في تقديم نصوصهم امثال (مظفر النواب، ابو سرحان، عريان السيد خلف، كاظم اسماعيل كاطع، ريسان الخزعلي، كاظم غيلان، عزيز السماوي، كاظم الركابي، ناظم السماوي ) وغيرهم الكثير، كون هؤلاء تحصنوا ثقافياً بكل ما طرحناه في سابق حديثنا، على العكس من الجيل الحالي الذي نرى كثيرا منهم وليس جميعهم، قد تسلحوا فقط بالثيمة والتلاعب اللغوي في صنع منجزهم الشعري.
ومن ما يجب التوقف عنده ايضاً ان شعراء الجيل الحالي والذي هو بطبيعة الحال جاء نتاجاً لمرحلة كانت الفوضى هي السمة السائدة في تقديمهم كشعراء او أصحاب منجز، فنحن جميعاً نعرف ان اغلبهم جاء ليقدم نفسه كمتهافت على المنصة وشاشات الفضائيات ليقدم نماذج شعرية يعتقد انه ومن خلالها قد حقق منجزاً خطيراً في مجال القصيدة الشعبية، في حين ان الحقيقة ليست هذه، بل ان هناك خطراً حقيقياً قد داهم القصيدة الشعبية متمثلاً ببعض النوّاحين والبكائين قد أستغل فسحة الحزن التي تعتلي ذهن المتلقي بسبب الويلات التي يعيشها العراقيون جراء ما يحدث في المشهد اليومي العراقي، وهؤلاء تحديداً ارتدوا قميص الحداثة الفضفاض الذي شوّه تماماً جسد القصيدة الشعبية وجعل منها وسيلة للارتزاق على حساب قداسة الشعر ورسالته التوعوية، وقد كان لبعض الفضائيات مساهمة كاملة في صناعة الخراب الشعري من خلال تقديم نماذج سيئة جداً من الشعر والشعراء، هيمنوا على الساحة وتسببوا بتغييب طاقات شعرية كبيرة يمتلكها بعض أبناء هذا الجيل الشعري المبتلى بالفوضى وقلة الوعي .
ختاماً ومع انحناءة أقدمها لكل منجز يستحق الانحناء أقول.
 ان الجيل الشعري الحالي مطالب وبقوة للسعي الى القراءة في مجالات الأدب للحصول على خزين معرفي وثقافي كبيـــر يسهم في تنمية قابلياتهم واخراجهم من النمطيـــة القاتلة التي يعيشونها، وتوظيف قراءاتهم ومعـــرفتهم في صناعة نص يليق بمن قبل بارتداء قميص الحداثة الشعرية، كما انهم مطالبون باعادة قراءة تجارب الآخرين ليس على المستوى المحلي فقط، بل وتعدى ذلك الى العربي والعالمي.
 فهناك نماذج من الأدب الشعبي العالمي ينبغي الاطلاع عليها ومعرفة 
كيف يفكر الآخر بصناعة النص المختلف الخالي من النسخ، فهناك أعطال كثيرة تسببت بهــا بعــض النتاجات المستنسخة.