المدنية وصراع الهيمنة الثقافية والأجتماعية _ ح2



ولدت البرجوازية العربية من رحم هذه العوامل وقادت فعلا إلى إيجاد هيمنة أقتصادية وأجتماعية جديدة منافسة وموازية للهيمنة الإقطاعية والقبلية، وخاضت صراعا خفيا مرة وعلني وحاد في مرات أخر، على ضوء هذا الصراع ظهرت طبقة المفكرين والمثقفين والكتاب وذوي مفاهيم نخبوية من كلا الطبقتين ليدافع عن وجودهما، هذا التحول الفكري والثقافي مع تمظهر البرجوازية كقائد لمرحلة التطور الأقتصادي والصناعي، وتفاقم ظاهرة العمل الصناعي والتجاري الحر وظهور ملحوظ للطبقة العاملة ونشوء المجتمعات الديموغرافية الجديدة المرتبطة بالعمل والتصنيع، كانت هذه مؤشرا حقيقية لظهور المدنية كفكر فاعل في الوسط الأجتماعي العربي، مع تزايد فرص التعليم والتربية وأنتشار العمل التنظيمي يمنيا ويساريا مع تراجع حقيقي لهيمنة الإقطاع والقبلي، وكان يتخيل للقارئ الأجتماعي أن الدول والمجتمعات العربية ستكون مجتمعات مدنية حقيقية في ظل هذه الظاهرة الملفتة للنظر.
في ظل هذا التطور المتلاحق كان المجتمع المدني النامي في واقعنا العربي يشكل العمود الفقري الذي أنتج سلطة جديدة لإدارة الدولة الوطنية الحديثة والمستقلة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، في خمسينيات وستينيات القن الماضي، وقد أستلمت الكثير من القوى التي تحسب على اليسار المدني وعلى اليسار المحافظ وحتى على الوسطية السياسية مقاليد الحكم والسلطة السياسية والأجتماعية، وبدلا من المفترض المنطقي والعقلاني أن تتحول السلطة الجديدة إلى داعم حقيقي لمدنية المجتمع وتشجيع الفكر الليبرالي انشغلت هذه القوى في صراعات بينية وعمدت على تهميش منظمات المجتمع المدني بقوة وإنفردت ديكتاتورية الحزب في إدارة صراعات أضعفتها وأضعفت التوجه المدني مما منح للقوى الرجعية والسلفية الفكرية بشقيها الديني والأجتماعي أن تستغل هذا الصراع لإعادة تموضعها مجددا في الواقع الأجتماعي العربي.
بعد نكسة حزيران عام 67 وما رافها من تداعيات وتحديات إنكشفت هشاشة وضعف منظمات المجتمع المدني وعدم قدرتها على المواجهة مع الهيمنة التقليدية التي كانت سائدة قبل عمليات التحول، والسبب في ذلك يعود إلى طبيعة النظم الأجتماعية الحاكمة سواء اليسارية منها أو التي بقيت متحالفة مع الأستعمار الغربي ومه أوجه الهيمنة الإقطاعية والقبلية العشائرية، وعدم تبني خيارات الديمقراطية التي تشكل القاعدة الأهم في بناء المنظومة المدنية وتطورها، كذلك محاربة الطبقة البرجوازية الوطنية والتضييق عليها من قبل السلطة الديكتاتورية بحجة أنها أفراز لمرحلة الأستعمار وعدم تلائمها مع النهج الاشتراكي الذي تبنته بعض النظم السياسية العربية.
كان من جراء ذلك أن أعيدت الهيمنة العشائرية والدينية وعاد الإقطاع مجددا تحت عناوين أخرى ليفرض واقعا معاكسا لما جرى عليه نمط التحول في فترة أواسط القرن الماضي، حتى أعلن رسميا عن أجراءات باسم الديمقراطية التمثيلية لتعط لبعض النظم الحاكمة نوع من المشروعية الجماهيرية أستغلت فيها قضية الفئوية والقبلية في إفراز مشوه ضخم من دفق التدخل العشوائي بين مفهوم الديمقراطية وبين مفاهيم رجعية تعتمد الحس الجزئي في خلطة غير موفقة بين المتناقضات الأجتماعية، لنجد نفسنا في بدايات القرن الحادي والعشرين أمام عودة حقيقية وقوية لهيمنة قبلية دينية طائفية فئوية أعتمدت الخطاب الرجعي ومارست الهيمنة السياسية والأقتصادية على المجتمع، وأستبدلت فيها مرحلة التصنيع وبناء القاعدة الأقتصادية السليمة بظاهرة السوق المفتوح بلا ضوابط نتيجة الوفرة المالية التي أفرزتها مرحلة منتصف السبعينات وصولا إلى أوائل الألفية الثالثة.
الذي ينظر اليوم إلى مؤشر التطور الحضاري المدني في المجتمعات العربية يشاهد الإنتكاسة الرهيبة التي تظهرها شكلية العلاقة الأجتماعية والسياسية والأقتصادية للواقع العربي، مع كل التطورات العالمية وتغير المناخ الدولي وظهور مفاهيم العولمة وتحديات عالم ما بعد الحداثة نجد أن المجتمع العربي تتبلور فيه هيمنة طائفية قبلية رجعية تحارب كل المظاهر المدنية والديمقراطية في حالة شبيه بما مثله أنطونيو غرامشي عندما سئل عن سر التغيير البلشفي وأثره في واقع روسيا القيصرية رغم خصوصيتها الاقتصادية والاجتماعية المتميزة عن أوروبا ؟ أوضح غرامشي أن سبب النجاح يعود إلى أن الدولة في روسيا كانت تمثل كل شيء مقابل هلامية وهشاشة وفقر المجتمع المدني، بينما نجد أن الدولة في الغرب تتميز بتلاحمها مع المجتمع المدنية، من هنا فإن الاستيلاء على السلطة في الغرب يقتضي تطوير استراتيجية جديدة مخالفة للاستراتيجية البلاشفة، إستراتيجية تقوم على استخدام الأيديولوجيا في سبيل الهيمنة، أي استخدام المثقفين لإنتاج رأس مال رمزي بواسطة النقابات والمدارس لتحقيق الهيمنة.
الفارق بين قول غرامشي ونجاه الطبقة العاملة في إحداث التغيير والواقع العربي الذي نجحت فيه الهيمنة الكلاسيكية على النفوذ بقوة للسلطة والأقتصاد، إن الدولة العربية الوطنية بما نشأت عليه خاصة بعد مرحلة الأستقلال لم تعتمد في بنائها على الأيديولوجية الفكرية الكلية ولم تتخذ برامج أقتصادية ناجحة ترسخ من ثوابت المجتمع المدني وتبلور دوره الضروري في بناء إدارة مجتمع، لقد كانت الدولة العربية الوطنية رغم ديكتاتوريتها وتسلطها كانت في الواقع العملي هشة ومتداعية وغير قادرة أصلا في واقع ديمقراطي حقيقي أن تصمد، لذا تكررت هزائمها السياسية والعسكرية والأقتصادية مع ضعف وإقصاء لفاعلية المجتمع المدني، وعجز النخبة من أنتاج رأسمال ثقافي وحضاري متجذر نتيجة صراعها مع السلطة من جهة وقسوة الحكومات في تعاملها مع هذه النخبة.
السؤال الآن ما هو المستقبل المتوقع للمدنية في واقع المجتمع العربي عامة والمجتمع العراقي خاصة؟ الجواب فيما يبدو وبعد أنتهاء عاصفة الربيع العربي وفشل المشروع السياسي الديني المدعوم علنا من الهيمنة القبلية والإقطاعية الطفيلية، سنشهد تحولات جذرية مهمة في البنية الأجتماعية والسياسية للواقع العربي، مع تنامي العداء الجماهيري لهذه الهيمنة والتي تمثلت بمظاهر غريبة على المجتمع منها الإلحاد المتفشي والهجرة إلى الخارج العربي وتنامي دور وسائل الأتصال والتواصل الأجتماعي، وإحساس واع بما يجري من صراع ديني _ ديني وأخر وطني_ وطني، وإعادة تأثير الغزو الثقافي والفكري وعجز مؤسسة السلطة في أقتراح أو تبني خيار إنقاذ وطني ينتشل المجتمع العربي من الفوضى الخلاقة، لنصبح أمام أستحقاقات تأريخية محورية أقل ما يقال عنها إنها إنقلاب حاد وقاسي ومؤثر على رمز الهيمنة والسلطة في المجتمع مع تداعيات سوف تثمر في النهاية بميلاد مجتمع يتبنى المدنية ويدافع عنها بقوة ديمقراطية حقيقية تحمل معها مشروع حل ناجز.