أيــــاد أحمـد هاشـــم ، حين يكون الخوف ضميرَ المتكلّم(2)... بقلم/ هاتف بشبوش |
لن تخدعونا ثانية الشسع المتبقي من حثيث السير الأكبرُ من وجوهكم سيؤمن الوصول والأطرافُ البالية قادرة على سحق الجراد المنتشر فالمسارات تعرف ُأقدامنا وما تبقى من ضئيل اللعاب قادر على غسل لحاكم كل اللغات أفقه من تأويلكم والمعبرون الذين أوهموا الملك يإطالة عمره يحزمون أمتعتهم الان ـــــــــــــــــــــــــــــ (الديمقراطية مفهوم يوناني غربي ..الإسلام عشائري يتماشى مع رأي رؤساء القبيلة يعني إضحوكة ...أدونيس) ...... الشعوب لا يمكن لها أن تنخدع أكثر من مرة تحت ذريعة الدين ورجاله ، وهنا في هذه الثيمة الشاعر شديد اللهجة لأنه قد ذاق الأمرين منهم ، ولذلك فهو يبصق عليهم لكي يغسل لحاهم من الآثام ( وماتبقى من ضئيل اللعاب، قادر على غسل لحاكم) ، هي بصقة لكنها في غاية الأدب ، انها بصقة مهذبة من شاعر لا يريد النزول الى مستواهم الدنيء كما نراهم عبر شاشات التلفزة أثناء اللقاءات الصحفية حيث يتشاتمون بأقذع السباب وخصوصاً تطاولهم على بعض النساء من صنفهم أيضاً ، لكنهن يختلفنّ عنهم بإنتماءات الأحزاب . كان الشاعر أياد بارعاً في هذه الأبيات الصارخة التي وجهت الإهانة الرصينة لسفلة تمادوا في خراب العراق . ويستمر الشاعر في هذا المنوال ليعلن من انّ الخوف الذي يلجم الكثيرين من الناس ويجعلهم قابعين في أماكنهم لا يقولون الحقيقة ، الخوف هذا نفسه أصبح هو الضمير ، هو الذي يتكلّم بلسان حال الفقراء ، لنسبر غور الشاعر بهذا الخصوص في النص الذي إتخذ موسومية الديوان نفسه ( الخوف ضمير المتكلم) :
أزِفَتْ بقاياك ما عاد في معصمي بيعة كي تكون على مقربةٍ مني ولأنني ابتكرُ الشمس لن أدعكَ تنعمُ بظلّي شظاياك لن تحسم الصولة والقطار الذي عاد متعثراً جاء يسأل عنك قبضة الرماد في عيون الفقراء صار يغسلها الدمع ـــــــــــــــــــــــــــــ الخوف ينهض كي يتقمص دور الشجاعة ، يا للهول ، وما أروع الشاعر هنا على هذه المخيلة ، وكيف جاءت الفكرة له بهذه الفلسفة التي تحرك المياه الراكدة في مستنقعها ، كيف إستطاع أن يجعل من الخوف نهضة ، مظاهرة ، تهديداً ووعيداً (لن أدعكَ تنعمُ بظلّي) . حتى الرماد الذي أذريتموه في عيون الفقراء بين الحين والحين غسله دمع بكائهم على حالهم المتردي نتيجة أفعالكم القذرة وما من ندمٍ على ذلك لأن الحال سيتغير حتما بقلعِكم في الزمان القريب . يستمر الشاعر في بوح الآلام بحق الوطن السليب من زمرة جاءت عن طريق الصدفة اللعينة وقذارة أمريكا ، لنتمعن ذلك في ثيمته أدناه من نص ( نافذة الفتح ) :
أنا ووطنُّ هاوٍ نمتحنُ غرائزنا نجمعُ الإختلاف في زجاجة الخلاف ــــــــــــــــــــ في الوطن الذي نخرته الخلافات العميقة والسطحية لما في شخصيات هذا البلد من ضحالة وقلة إدراك ، الجميع مختلفون على حب الوطن ، لكنهم متفقون على حب الطائفة والحزب والقومية والعرقية .
الى أن يقول في نفس النص :
الخريف المتعثر يصحب أوراق الأزاهير الى المزبلة مصادر الاحتراق متعددة الطرائق الى باحة الخوف يأخذني ظلي أتوسدُ دكة شحاذٍ لم يحفل بالحساء الأخير ــــــــــــــــــــ
موسم الخريف يدخل في التعبير الرمزي لأغلب الكتاب بإعتباره موسم الموت وبنفس الوقت هو ميلاد جديد لورقة أخرى ، وهناك أحياناً نرى بقاء ورقةٍ ما في الغصن ترفض النزول ، فهنا نستطيع أن نقول أنها تتحدى الموت , ترفض الخنوع لهذه الطريقة القسرية للموسم في إخراجها من الحياة بالقوّة والإجبار ، فمن منّا لا يحب الحياة . وهناك نظرة أخرى رائعة حول الخريف وأوراقه المتساقطة (الورقة التي لم تسقط في الخريف خائنة بنظر أخواتها ، وفيّة بنظر الشجرة ، متمردة بعيون الفصول ، وهكذا فالكل ينظر من زاويته .... مكسيم غوركي) . لكنّ خريف صديقنا الشاعر يتماثل له وهو في أوربا ورؤياه لكيفية إزاحة الأوراق بعد تنظيف الشوارع الى المزابل بعد إن كانت رائعة جميلة تزيّن الشجر والأغصان ، مثل موتانا في العراق بعد انْ يحصدهم الموت التفخيخي الشنيع ، الموت المجاني الذي يحصد أطفالنا الذين بعمر الزهور ، الموت الذي ينفي شيوخنا ونساءنا الجميلات ، حتى يُكنَسوا الى سلة مزابل الموتى ، فأي وطنٍ هذا وأي موت . وما بيد الشاعر أياد سوى الركون من فداحة الموقف في دكة فقيرٍ لم يستطع أن يوفر قوت يومه في بلدٍ ثري ، الشاعر أياد يلوذ بالفقير بإعتباره أطهر من سياسيٍ سارقٍ ومارقٍ حقير . ما زلنا مع الشاعر وهو دفّاقٌ في حزنه وألمه على الوطن السليب ، لا يستطيع الإكتفاء بل يريد قول المزيد والمزيد كي ترتاح سريرته فيهدأ من كارثة حلّت بهذا الوطن إسمها المتزلفون والمتوضئون وما شابه . لندخل للشاعر عبر بوابة بوحه الأليم (مبتعدُّ عن أناملي ):
المتوضئون بفائض الأقاويل المحتمون بالغرائب واهبو القرابين المتزلفون للآلهة المتصارعون المتسيدون المتسلقون على ماتبقى من أضلاعنا معلنوا الكراهة الحماة المجعجعون سارقو القوت والهواء سنبتكر أسماءً لأيامنا ... ... من يغسل شوارعنا وهي تبكي معنا فالأسماء توحدت بالمصير ـــــــــــــــــــــــــ
كل ما جاء من السماء هو فكر جامد لأنه غير قابل للمطاطية والجدل ، بل سترجم أو تقتل لو حاولت النقاش به كما حصل للكثيرين ممن رفعوا أصواتهم ضد الكنيسة ، أو ماحصل مع الكاتب اليساري الأردني ( ناهض حتر) قبل يومين الذي قتل على يد المتطرفين الإسلاميين لرسمه بعض الرسوم الكاريكاتيرية التي قالوا عنها انها تسيء للآلهة . كل ماهو يأتي من البشر فهو فكر حر قابل للتغيير ومن الممكن أن نضعه أمام محكمة العقل . حينما ندخل مجتمعاً ونرى تفشي الجهل وبدون أن نسأل نعرف أنّ الدين متفشٍ لديهم وهو السائد ، وكلما ندخل مجتمعاً متحضراً وفيه المرأة بزيها الجميل الذي يبهج النفس ، وفيه دورٌ كبيرٌ للموسيقى والسينما والثقافة ، هذا يعني هناك فكر حر يطغي على الجامد وعلى كل من يعتقد بالأقاويل والشعوذة المقدسة . الشاعر أياد أحمد أجاد بشكل مثير جدا في رسم الملحمة الإنسانية التي مرّت بالكثير من الويلات بإعتباره جزءاً من الإنطولوجيا الرئيسية للأنسان بشكلٍ عام في هذا الكون الفسيح ، وبشكلٍ خاص في أرض العراق التي ينتمي إليها ، فراح يتحفنا برائعته البوحية (توهمتُ أني بريء):
لا اُكثرُمن الصلاة لكنّ جبيني تملؤه الأوسمة كل المارة تركوا بصماتهم عليه وجهي متعدد الألوان أحتاجُ الى تغيير لوني في كل مدينة وأبقي على جانبٍ من جبهتي مفتوحاً للضرورة
الى أن يقول في نهاية النص :
كم أنا مغرمُّ بإشعال الفتيل من أجلِ تمرة طالما توهمتُ أني بريء ـــــــــــــــــــــــ (غاية الأخلاق أن يستحي المرء من نفسه أولاً.....فولتير)......
في بداية الثيمة ، نرى الشاعر أياد يعلن براءته الواضحة بلا لبس من هؤلاء المصلّين السرّاق في السلطة البرلمانية والتشريعية والقضائية ومن كل ما ينتمي اليهم من فداحة التصرف والأقاويل ، لكنه يفتخربنفسه من أنه النظيف من العلامة السوداء الجبينية التي أصبحت سائدة اليوم بين أولئك عديمي الأخلاق ، للدلالة على مكرهم وخبثهم . ثم ينتقل الشاعر في هذا النص الى الذاكرة حاله حال الكثيرين من الشعراء الذين لا يستطيعون العيش من دون غذاء الذاكرة ، بل هو يعيش عليها وهي التي تشكل الديمومة البوحية له ( كل المارة تركوا بصماتهم عليه) . الإنسان معذّب على الدوام ، ومنذ أنْ زرعت الذاكرة بذورها في رأسه ، أصبح لا يطيق ما يفعله من آلام بحقه وحق الآخرين ، لكنه يستمر في صنع الأذى ويؤرخ له في ذاكرته ويجعلها أيقونة كما الطوطمية ، فحين نتصور كم من الأعباء على عمر الكرة الأرضية خزنت في هذه الذاكرة اللعينة ، سواء في التأريخ عبر رواته أو عن طريق الإنسان نفسه الذي يعيش حقبة زمنية معينة وينتهي بالحتمية العدمية التي سيلقاها سواء أن طال عمره أم قصر ، والكارثة الأكبر هناك تصور لعذاب آخر بعد العدمية الرهيبة التي بالإنتظار ، فما دمنا أحياءً فإنّ حملنا ثقيل ويتأرجح بين الماسوشية حينا والسادية حيناً آخراً كما نقرؤها في أغلب الملاحم المؤلمة ، وهنا الشاعر أياد في آخر ثيمته يرسم لنا هذه الملحمة لكونه يعيش في خضمّها أو هو مشعلها كإنسان مجرّد من العلاقات الجانبية الآخرى ( كم أنا مغرمُّ بإشعال الفتيل من أجلِ تمرة/ طالما توهمتُ أني بريء) ، وما اكثرها الفتن والحروب التي يشعلها بنو البشر وأحيانا تكون ثأرية وإصرارية من جانب واحدٍ لا لشيء الاّ لأنه يعتبر نفسه مظلوماً بريئاً فلابد له أن يأخذ ثأره لكي يشفي الغليل المتعطش للدمار والقتل، وهذا ما حصل للشاعر المهلهل من بني تغلب ( الزير سالم) في حرب البسوس التي إشتعلت نتيجة ً لقتل ناقة ، فاستمر المهلهل بحروبه على قبيلة بني بكر لأكثر من أربعين عام دون أن يتوقف لكي يأخذ ثأر أخيه كليب الذي قتل على يد جسّاس . فنشأت تلك الملحمة المأساوية المعروفة اليوم لدى القاصي والداني . وفي خضم هذه الملحمة ، وبالرغم من كل ذلك القتل والذبح ، كان هناك البعد الإنساني المتمثل بالصداقة ورموزها التي تشكل رمزا وبعدا تأريخيا لايمكن أن ينسى ، فالعلاقة الصداقية الحميمة بين المهلهل وشخصية محارب آخر يسمى إمرؤ القيس بن أبان ، كانت مثالاً يحتذى به في ذلك الوقت الغابر ، لما يرسمه لنا من عتاب ولوم ومناكفة وسجال وإختلاف عما تخلّفه الحرب وهكذا دواليك . وهنا يقف شاعرنا الجميل أياد في أيامه هذه وفي القرن الحادي والعشرين وما تخلفه الحرب الدائرة في العراق ، ليعاتب الصداقة والصديق في نصه الموسوم (عسى أن تعود صديقا):
سأرفعُ سبابتي بوجهكَ مكتفياً لأمنحك عظمة الإعتذار عسى ان تعود صديقاً البلابل علمتني أن فمي خلقَ لنغمةٍ اخرى إقترافي حبكَ كان صنع السماء مشيئة البحر أاعيدُ الذي ضيعتْ راحتاي؟ ـــــــــــــــــــــــ هذا النوع من النصوص هو شكوى ، هو رثاء بشكلهِ الآخر ، رثاء ساخر ، نص يعلن القطيعة لكنه يريد التصالح لكونه متسامحا لا حاقداً كما الآخرين ، نص يتكلم بلغة الحمام والعصافير ، عكس ما يتكلمه الآخرون بلغة النمور ، أما حبي لكَ وتمشدقي بصداقتك لاضعفاً مني ولا بطرا ، لكن الحب هو هبة الرب ، هو إنبعاث الآلهة ، حيثيات القدر ، ربما يضيع هذا الحب ولربما يرسو في الميناء بعد التيه في لجة البحر السرمدية . ثم يعود الشاعر في آخر ثيمته الرائعة وكأنه يناغي محمود عبد الرحيم الشاعر الشيوعي الفلسطيني ، الذي أنشد بيتا ظل هادرا عبر الأزمنة ، بيتا للتضحية وإعلان الشهادة في سبيل الوطن حين يقول ( سألقي بروحي على راحتي / والقي بها في مهاوي الردى/ فأما حياة تسر الصديق / وإما ممات يغيض العدا). لكن الشاعر أياد ربما أراد القول ، أنه يأسف لما ضاع من العمر الذي كان بقبضةِ راحتيه . في النهاية ومهما كان المحارب منهمكا في أداء واجبه ، ساهراً لكي يؤدي المهام ببطولة تذكر ، ساعياً إلى أن يجعل القضية الوطنية والوطن وحب الأرض في الركن الأول من الحياة ، لكنه في ساعات التعب المضني لابد له أن يجد إستراحة المحارب عند نهديها ، أو بالقرب من أذيال فساتينها ، او مع طعمها الشهدي ، مثلما كان يفعل أنطونيوس مع كيليوباترا حينما يهده التعب من الحرب ومن التفكير في مصير الملكة والمملكة ، كان يلجأ الى أحضان كيليوباترا التي هي الأخرى مهدودة من المآل نفسه حتى إنتهت قصتهم بالتراجيديا المعروفة ومقتلهم في ذات الأوان . لذلك نجد أياد في هذا الديوان الذي كّرسَهُ للسياسة وحب الوطن ، لكنه لم يستطع أن يعيش من دون إمرأةٍ لعبور الليل الحالك ، فراح ينتشي بشكواها العسلي في النص الإنثوي أدناه ( حين يشكو العسل) :
حين يشكو العسل من رفيف النحل وهو يأخذ قيلولته في فمها لا أشعر وشفتاي بمعنى القبلة الأخيرة أقدم قلبي إعتذاراً لعينيكِ حين يحبو الغزل
فعلاً انّنا نحبو عند بداية الغزل ، يبدأ وكأننا نتعلّم السير حين كنّا صغاراً حتى ننطلق وبعدها لن نحتاج للإتكاء على الآخرين ، فالغزل فوق سرير الحب يبدأُ بالشميم ، ثم اللمس الخفيف والتمسيد ، ثم القبلة التي ستكون هي مفتاح الحب الذي استطيع من خلالها انْ أعرف ماهو طعم الرضاب ، ماهي طبيعة الجنة التي سوف أدخلها لاحقاً من جراء الصدمة التي تعتريني أو الصاعقة التي تضربني وتشلّني في الحال ...القبلة في الأفلام الهندية غالية الثمن بحيث أنها لا يمكن تمثيلها لعظمتها....القبلة القبلة وما ادراك ما القبلة إذا قُلبت الضمة الى كسرة ، فهي عمود الحب وبداية العبادة الإلهية عند تأدية طقوس الحب الناري . هكذا هو أياد شاعرنا عندما يعلمه جفنه ُمعنى الغزل ، يمضي مردداً هاتها هاتها...هاتي هاتها . أخيراً أستطيع القول ونحن وسط مجتمع أكثر مثقفيه اليوم بأخلاق مزدوجة لا نعرف هل هو علماني أم متدين أم بين بين تبعاً لمجريات الواقع (الفلاسفة والمبدعون أعدادهم قليلة مثل الجوكر مع سائر أوراق اللعب). كما وأنني رأيت لما قرأته عن المبدع أياد وما يريده بشكل نسبي ، من أننا يجب أن نعمل على تغيير الكثير من المفاهيم ، ومنها أن نجعل التديّن قضية فردية وكل إنسان حر بنفسه وتصرفه ، وأن نبتعد عن الإسلام التأويلي المدمر لشعوبنا ،( وأن لا نتصرف كالمنافق الذي يخفي حيله بينما يجهر بالقرآن ... حفيظ ...شاعر إيراني في القرن الرابع عشر) .
|