العروبة والقومية

 

لسنوات غير قليلة استخدم كل ما نعنيه أو نقصده بالعروبة باعتباره “قومياً”، وهو أمرٌ بحاجة إلى توضيح وفكّ اشتباك، فالفكرة القومية كأيديولوجيا شيء، والفكرة العروبية كرابطة إنسانية – اجتماعية وجدانية شيء آخر. إن واقع تطور الفكرة العروبية وضع أمامنا طائفة من المتغيّرات الجديرة بالدراسة والنقد، لا سيّما وأنه لا يمكن الان الحديث عن “فكرة عروبية” أو “قومية عربية” من دون الحديث عن عملية انبعاث جديدة لتيار عروبي تقدمي، بجناحين أساسيين:

الأول: الإيمان بالديموقراطية السياسية دون لفٍ أو دوران،

والثاني: الإيمان بالعدالة الاجتماعية دون ذرائع أو مبررات.

ولا يمكن للتيار العروبي التقدمي أن يحلّق من دون هذين الجناحين، إذْ أن انكسار أحدهما يقود إمّا إلى الدكتاتورية والاستبداد أو إلى الاستتباع وقبول الهيمنة، وبالتالي فإن تعطّل أحد الجناحين سيضرّ بالعروبة وبفكرة الوحدة العربية.

إن فكرة الوحدة العربية مسألةٌ محوريةٌ ومفصليةٌ يشترك فيها على نحو وجداني أبناء العروبة من أقصى الخليج إلى أقصى المحيط وفقاً لشعور تلقائي وعفوي بالانتماء إلى المشترك العربي – الإنساني. ولا يمكن للأمة العربية أو حتى للفكرة الوحدوية العربية أن تتقدما من دون التنمية المستدامة المستقلة.

كما لا يمكن الحديث عن العروبة دون أخذ مفهوم الحداثة بعين الاعتبار، ولا يمكن أن نتحدّث عن دولة عربية منشودة دون الأخذ بفكرة الدولة الدستورية الديمقراطية المؤسساتية، ولن يتحقّق ذلك إلاّ في ظل سيادة القانون ودولة عصرية قائمة على المواطنة الكاملة وعلى مراعاة شروط المساواة والعدالة والمشاركة.

ومثل هذه الحداثة تؤسَسْ على أربعة أركان هي: المدنية والعلمانية والعقلانية والديمقراطية، التي تشكّل محتوى وجوهر أي تغيير اجتماعي، لا سيّما في إطار دولة دستورية عصرية حداثية.

وبالعودة إلى بدايات فكرة نشوء الدولة – الأمة/ الوطن – الأمة تاريخياً، نرى أن فكرة الدولة في أوروبا انطلقت من فكرة الأمة وقامت على أساسها ضمن حدود سياسية معينة، بينما، دولنا العربية الطامحة لتحقيق دولتها العربية الموحدة ما زالت أجزاءً مبعثرةً ومتفرقةً، متفرّعة عن أمةٍ ممزّقةٍ وموزّعةٍ إلى كيانات وكانتونات ودوقيات ما قبل الدولة يتحكّم فيها الإنتماء الديني والطائفي والمذهبي والإثني والعشائري وغيرها.

وإذا كانت الرابطة العروبية قد نشأت وتعمّقت في ظل الشعور بالاستلاب أيام الدولة العثمانية، فإن التعبير عنها سار باتجاهين متباعدين في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، خصوصاً في خضم الصراع السياسي:

الأول؛ دعا إلى ضرورة العمل على قيام وحدة عربية فورية شاملة بغض النظر عن سياسات ورغبات الأنظمة، فيما سعى الثاني، إلى قيام اتحاد عربي على أساس التقارب السياسي والاجتماعي، لا سيّما بين الأنظمة، أو إيجاد دولة المركز (القاعدة)، الأساس التي يمكن أن تلتف حولها دول وأقاليم أخرى، لتشكّل دولة الوحدة السياسية والاجتماعية.

ولتحقيق ذلك ظهر فريقان طالب الأول منهما، بقيام وحدة اندماجية فورية دون الالتفات إلى تفاوت الظروف الاقتصادية والاجتماعية بين البلدان العربية، فيما دعا الثاني إلى تعزيز فكرة الدولة القطرية لتكون مركز الدولة الموحّدة المقبلة، ولكنه لاحقاً استمرأ فكرة الدولة القطرية، وأخذ يدافع عنها بأسنانه وأظافره بضراوة لا مثيل لها.

وصاحب ذلك، صراع آخر ظهر على أشدّه بين التيارين الاشتراكي الماركسي واليساري وبين الوحدوي “القومي” العروبي، لا سيّما حركة القوميين العرب، وحزب البعث العربي الاشتراكي، والحركة الناصرية، الذين كانوا ميّالين إلى إتمام الوحدة العربية الفورية،وفيما بعد يمكن أن تتحقق العدالة الاجتماعية المنشودة، بغض النظر عن طبيعة الأنظمة السائدة.

أما الحركة الشيوعية والماركسية فقد تبنّت شعار “الاتحاد الفيدرالي” بزعم تهيئة الظروف وتمهيد الطرق السياسية والاجتماعية والاقتصادية لإقامة شكل من أشكال الاتحاد الذي يمـكن أن يتعزّز فيما بعد ليصل إلى الوحدة.

يمكنني القول إن كلتا الأطروحتين تضمّنتا جزءًا من الحقيقة، لكنهما كانتا على خطأ رئيس أيضاً. فخطأ الحركة الشيوعية كان في التقليل من أهمية شعار الوحدة الجاذب للجماهير، لأن هذه الوحدة بغضّ النظر عن طبيعة الأنظمة الاجتماعية والسياسية، هي وحدة شعوب، ووحدة الطبقة العاملة في هذه البلدان، وكان على الشيوعيين أن يتبنّوا شعار الوحدة، وأن يبذلوا كل الجهد في سبيل تحقيقه، لأنهم سيكونون الأكثر مصلحة في إقامة الكيان العربي الكبير والموحّد.

ولكن بحكم تأثيرات أممية وخارجية، وربما بحكم نفوذ بعض “العناصر غير العربية” على قيادات الأحزاب الشيوعية في العالم العربي أو قلّة وعي القيادات الشيوعيّة العربية، فإن اختيارها دفعها للتقليل من أهمية الدعوة لشعار الوحدة وعدم استخدامه كشعار مركزي، علما بأن الحركة الشيوعية العربية تبنّت شعار الوحدة العربية منذ العام 1935 لكنها أهملته في حملة التثقيف الأساسية، مقدّمة القضايا والمطالب الاجتماعية والطبقية عليه.

أما خطأ القوميين العرب ولا سيما الناصريين والبعثيين وهم أكثر الدعاة تمسكاً بوجوب قيام الوحدة، فقد عملوا بعد وصولهم إلى سدّة السلطة بوعي منهم أو دونه على تعميق عوامل التباعد والتنافر بين الدول العربية مما أدى إلى المزيد من التشرذم والانقسام واتّساع هوة الخلاف بينهم، ما أسهم في ترسيخ فكرة قيام الكيانات القطرية باعتبارها “مملكة الخلود”.