أشهد أن الحديث عن الكبار في غيابهم هو حديث ، في كثير من الأحيان ، أقرب إلى الغدر .. فإذا كانت لدى الأحياء القدرة أن يردّوا ، أو يشرحوا لنا آراءهم لو أخطأنا ، فما السبيل لدى الغائبين ؟.
وكيف سيكون الحديث عن غائب مثار الجدل ، يستحقّ أن ننحت له التماثيل ، ونضفر لقبره الأكاليل ؟!.
فهذا رجل لم يهبط من سفينة التاريخ رغم تلاطم الأمواج من حوله وتدافعها ، بل ظل شاهداً على التاريخ .. كما بابل ، وآشور ، وشارع الموكب ، وروعة بغداد ، وديوان المتنبّي ، وبلاغة الجاحظ ، ومقدمة ابن خلدون ، وقصص ألف ليلة وليلة ، وأسفار السندباد .. وكان واحداً من أكبر أساطين العقل الثائرين ، في القرن العشرين ، على مجتمع يعجّ بالشعوذة والخرق والزوايا المظلمة والدجّالين !.
وهذا رجل استبق عصره موقفاً وفكراً ، فكان في الأتي من السنين مما استهجن واستحسن واستبق ، وكان واحداً من قلّة جاءوا من أقصى تخوم المستقبل قبل موعدهم بقرون .. وهذا رجل لم تمتصّ دوارس السنين البالية ملامح فكره ، وسمات شخصيّته وقسماتها من ذاكرة الأحياء ، أو لم تبق منها ، مثل آخرين ، إلا بقايا من صورة جار عليها الدهر بكثير من غبار النسيان !.
وهذا رجل لم يكن ليتحدّث ، أو يكتب ، أو يعلن رأيه على استحياء ، فقد عرفناه عالماً يشقى بالأفكار التي شقي بها المفكرون والمجتهدون والمجدّدون من طرازه في جميع العصور ، وعرفناه من أكثر مجدّدي زمانه ، تنويراً وجرأة وشجاعة وحبّاً جامحاً للحريّة ، وحتى ليبدو أن علم الاجتماع بقي كالأرملة بعد غيابه !.
فكيف كانت تفاصيل سيرة رجل اشتهر بعلوّ نفسه ، وهجر الموائد في البلاط والقصور المترعات باللذائذ والعامرة بالطيّبات والجيوب المُتخمة بالذهب وبالنقود يوم خوت جيوبه ، وضاقت عليه البيوت والأبواب والنوافذ ، ولم يحضر القسمة ، ولم يتهالك على الفتات ، ولم يتغانم مع المتغانمين ، ولم يقبض العطايا والهدايا والمكافآت والهبات مع جميع أصناف القابضين ؟.
عرفناه أكثر ما عرفناه ونحن نعبّ من هموم الثقافة ، بكتبه الخالدة ( أسطورة الأدب الرفيع ) ، و ( مهزلة العقل البشري ) ، و ( وعّاظ السلاطين ) ، و ( طبيعة المجتمع العراقي ) ، و ( لمحات اجتماعية من تاريخ العراق ) .
إنه الغائب الحاضر ، الراحل المقيم ، البعيد القريب ، عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي .. يعنّ استذكاره في خواطري ، وقد أعلمني يوماً أنه انتهى من كتابة مذكراته ( ريشة في مهبّ الريح ) ، وأنه يريد لها أن تصدر بعد موته ، اعتقاداً منه أن نشرها في حياته قد يودي إلى التهلكة ، فقد كتبها بمشرط جرّاح ، وبصراحة لن يغفرها الناس ، بل سيغضبون أشدّ الغضب ، وتحدّث لي عن محاولتين لقتله انتقاماً من آرائه الجريئة ، فأنجاه الله .. غير أنه في الموت ، والكلام للوردي ، لن يبالي ، بمن يرضى منهم ، أو يسخط .. لأن الدود ، في اعتقاده ، لا يُفرّق بين من يترحّم عليه الناس ، أو من يسبّونه في قبره !.
ولقد ولد جيل من العراقيين ، وكبروا ، وصاروا طلاباً في جامعاتهم ، منذ أن غادرنا أستاذنا الوردي إلى الملكوت الأعلى ، ونحن لم نقرأ ( ريشة في مهبّ الريح ) ، ولا أحد يدلّنا على مكانها ، رغم أنها ملك لنا جميعاً ، ومن حقّنا أن نحيا مع تاريخنا ، بحلوه ومرّه ، ونعرف ميراثنا !.