مهما يكن، فإن المالكي والصدر خرجا عن السياق. وهما الآن يعيشان سوية لحظة متأخرة من الخطاب، تغرق في ذلك التنافس الذي تغلبت عليه وفضحته "اللغة الشخصية". وسيحصل مثل هذا الهبوط الحر بينهما عبر تكتيك "الضرب تحت الحزام"، كثيراً في الأيام المقبلة.
كلامهما، مع فوراق عديدة، اشتركا في رفع درجة "مراهقة" الحياة السياسية العراقية، وهي لا تحتاج، أصلاً، إلى المزيد.
هل سيكون مفيداً اكتشاف أجواء البيانين الفريدين اللذين دبجاهما الزعيمان في بحر أسبوع كان مشغولاً بتفكيك الملف العراقي بين أركان البيت الأبيض؟ كان المفترض، وليس المتوقع، أن يأتي المالكي ليقوم بما يقوم به أي رئيس حكومة في العالم: يعرض نتائج جولته الاميركية على الرأي العام، ويخبر شركاءه العراقيين بما وجده من مستقبل للعلاقة مع واشنطن، وما يترتب على العراق فعله.
كان هذا ما يفترض ان يكون.. ما يفترض ان يقوم أي به أي رئيس حكومة في أي دولة بالعالم، لكننا لسنا أي دولة، وليس المالكي غيره.. نحن هنا في العراق.
إذا ما سيكون مفيداً حين نفكر بالبيانين؟ هل يمكن ترجمة جمل من قبيل "الاستجداء من الشيطان الأكبر"، و"تجاوز حدود الادب"، إلى فكرة انتخابية. ربما هذا ما سيحدث.
اما المالكي، فقد كان مخيباً للآمال، وخارجاً عن طور وسياق المنصب والوظيفة التي يتحمل مسؤوليتها، حين استعمل لغة لا تصلح إلا لأن تكون رسالةً عابرة عبر هاتف محمول. ولو كانت الحاجة ماسة ليرد على اتهام الصدر بأنه استغاث بالشيطان الاكبر، لكان الأجدى أن يكون رئيس حكومة، ويشرح ما فعله في الزيارة، وأن يرد عن نفسه الاستغاثة والاستجداء.
ما فات المالكي كالكثير الذي فات. وهو دائماً ما يقول للرأي العام الكثير عن لحظته التي يتخلى فيها عن منصبه رئيساً للوزراء.
لقد رد المالكي على الصدر، من دون أن يحتسب لسياق أسس لتقاليد المخاطبات والردود الحكومية على المواقف التي يظهرها زعيم سياسي. الصدر، مثلاً، يملك من حرية الخطاب ما لا يملكه المالكي، ولو أرد أن يحظى بتلك الأريحية، فلينتظر تقاعده.
اما الصدر، فقد عاد ليصيب المنتبهين إلى تحوله بالحيرة. ما ان تكون انطباع عن سياقه الذي يحتمل الهدوء السياسي والانفتاح ومحاولة صناعة الحلول، لا الأزمات، وإظهاره قدراً "معقولاً" من الحرفية السياسية، حتى تراجع بنا إلى انطباع قديم من التخبط والازدواجية.
بيانه عن زيارة المالكي يشبه تماماً خطاباً لسجين رأي كان ممنوعاً من التصريح عن "الشيطان الأكبر". ومهما كان موقفه من واشنطن، فإن قوله عن الرصانة السياسية ومحاولة الامساك بخط سياسي يؤدي به إلى مزيد من النجاح السياسي، يتطلب منه أن يغير "التعبير".
شاء ام أبى أكثر النافذين في البلاد، فإن طهران وواشنطن محطتان تجبران قادة البلاد على التفاهم معهما، وتحقيق المعادلة المطلوبة معهما بشأن مستقبل العراق.
ألا يريد الصدر تلك المعادلة؟ إنه يعود بنا إلى الحيرة التي تطفو على السطح كل مرة: من هو الصدر الذي يبشر بالانفتاح؟ ومن هو الصدر الذي يذكرنا بحالته الراديكالية القديمة التي ابعدته عن المشهد طويلاً.
مقالات اخرى للكاتب