أشعر بالحنين للعودة إلى الدفاتر القديمة . أهرب من هذا الجفاف العظيم إلى منابع الماء والعذوبة . أشتاق إلى الأيام الأولى في هذا الصيف اللاهب بكل مرح الطفولة . بشغف غامر . بسعادة لا توصف . حين كنّا صبية نتوافد من كل الأزقة والدروب والدور إلى النهر . نتراكض الحائط الحائط في البساتين العامرة بجميع ما لذ من الطيبات . نملأ الأجراف بالهرج والمرج ، ونملأ الدنيا صخباً وضحكاً وضجيجاً ، ونحن نمارس العطش على ضفاف الفرات حتى تؤذن الشمس بالغروب .
يومها لم نكن نحسب العمر بالساعات والأيام والشهور والأعوام . ولم نكن نفتش عن خبر مفرح كما في هذه الأيام . لم نكن نشعر بالوحشة والخوف والارتباك ، ولا نرى هذه المواكب الطويلة القتيلة من الجنازات في مقابر مفتوحة الشهية ، أو نسمع الكلام الحزين ، والأنباء المؤسفة في أزمنة الآلام وعذاب المظلومين .
كم أتمنى أن تعود بي تلك الأيام سيرتها الأولى . أحنّ إلى مسمار في حائط . إلى وتد في خيمة . إلى عمود نور قرأنا تحت ضوئه ديوان المتنبي . إلى رائحة الخبز الصاعدة من تنانير الطين قبل الفجر . إلى شجرة تويتاء في بستان مهجور . إلى : ( منازل قوم حدّثتنا حديثهم ... فلم أرَ أحلى من حديث المنازل ِ ) . يؤرقني الشوق إلى ذلك القصص الجميل .
تداهمني صور عميقة متلاحقة طافحة بالحنين القاسي كأنها شريط سينمائي . تنتابني أحاسيس ندم في مدائن الألم . تذكرت البارحة أطيافاً من صور تحت مؤثرات نفسية وعاطفية . تذكرت أياماً ليس لرجوعها من سبيل . تذكرت قطعة من القلب انكسرت فاختنقت بالعبرة . تذكرت أعزاء غادروا شباب العمر من دون وداع أخير . أعرف أن العمر سيّاف لا يرحم . غادر وغدّار . مثل غيمة مدلهمة أمطرتنا وابلاً من الرعب .
ومرّ علينا حين من زمن مثل دهر . وتتابعت أيام ثقيلة الوطأة . صرنا نبحث عن تعلات لملامحنا التي تزداد هرماً في موسم كآبة طويل . كانت الطريق وعرة مظلمة ، مزدحمة بالآمال . وراودتنا أحلام واسعة . أحلام بحجم زلزال . رأينا مدناً تسقط . رأينا مدناً تحاصر . رأينا مدناً تحترق . ونحن لا ندري متى تنجلي الغمّة عن هذه الأمة ؟.
ثم ما لبثت أن أصبحت أوطاننا مجرد حقيبة سفر موحشة حزينة . مجرد مناديل عاشقات ودموع عشاق . أوطان لا تصلح أن تكون وسادة للنوم بطمأنينة . مثل فنادق الترانزيت غير صالحة للإقامة أكثر من ليلة أو ليلتين . أوطان لا تستحق الرثاء ، ولا البكاء .
وتفرقنا في داخل الوطن وخارجه مهمومين ممزقين . وتبعثرنا في المنافي والشتات تائهين حائرين . فإذا كل منّا يكتب لصاحبه رسالة شوق من وطن مؤقت . هناك من الناس يعدون المخيمات بديلاً عن أوطانهم .
اليوم يبدو كل شيء مرتبكاً خجولاً . مسطحاً وفارغاً .. تراودني أسئلة مريرة : أين أشرعتنا التي تركناها أمس عند الضفاف ؟ أين زوارق بالمجاديف رسمناها على رمل الشاطئ زاهية الألوان ؟ أين دفاترنا التي تركناها مفتوحة هناك ؟ أين أحلامنا الممكنة ، وأحلامنا غير الممكنة ؟ أين .. أين ؟.